“Reflections”
عند الخامسة فجراً انطلقت خارج المدينة. الطقس العام ينذر بيوم بارد ورياح قوية واحتمال كبير لهطول الأمطار. لذا استعديت جدياً بلبس دافئ ووضعت البانشو البلاستيكي في متناول اليد في حال سقوط المطر. خرجت للطريق وكانت أنوار الشوارع لا تزال مضاءة والسماء كحلية داكنة. كنت أمشي ولا أنكر شعوري بالخوف في تلك الدروب وذلك الوقت المبكر. سعدت بعدها برفقة “هاتي” وزوجها من جنوب أفريقيا حيث التقينا على أطراف البلدة. شعرت بالأمان الفوري معهم رغم لحظات الصمت الطويلة في البداية.
قصتها قربتني منهم وأحسست كأني أعرفهم منذ وقت طويل. تكلمت بهدوء وقالت انهم يمشون الطريق حمد وشكر لله لأن زوجها نجا من ذبحة قلبية وهو شاب في عمر 32 عام. كما أنها هي نفسها نجت من سرطان الثدي. شعرا في مرحلة ما من حياتهم أن سرعة مرور الوقت في المدن الحديثة لم تعد تمنحنا كبشر فرصة التأمل الجيد في حياتنا وأننا نرتاح لفكرة وجود الأشخاص والأشياء من حولنا كمُسَلَمَاتْ لا نخاف خسارتها ولا نعرف قيمة الحياة الحقيقة ولا نعيش اللحظة بل نحن في لهاث دائم من أجل الغد أو التحسر عما حدث في الماضي. الحاضر واللحظة الحالية باتت مفقودة.
بعد كلماتها لم أملك إلا أن افكر فيها ملياً وأحاول استيعابها وتكرارها ببطء لعقلي فهي جزء مما أشعر به حقاً وأطمح لتغييره في حياتي بالفعل. أن اتعلم الإهتمام أكثر باللحظة الراهنة. ما يحدث لي “الآن”.
مررنا بمزارات صغيرة من الأسمنت بمحاذاة الطريق تعلوها غرف من زجاج وخلفها تماثيل للعذراء وصغيرها محاطة بأصيص الورد الأحمر. شاهدت كثيراً مثل هذا المنظر في لبنان حيث يرمز لتذكير الناس بمن فقدوا من أعزاءهم على هذا الطريق سواء بحادث مروري أو غيره. وبالحديث عن الحوادث المرورية، فنحن الآن نمشي بمحاذاة الخطوط السريعة للسيارات وعلينا توخي الحذر أكثر لأن المشي عبر طرق رملية في الأيام الماضية يجعلك لا شعورياً تسلك منتصف الطريق وهي خطوة غير صائبة هنا على الطرق السريعة.
خارج المدينة كانت هناك تلة خضراء يعلوها تمثال حديدي ضخم لثور واقف بدى لي كحارس للمكان أو مستعداً لهجوم ما.
وصلت مع رفيقي المشوار لبلدة نافاريت Navarrete بدت لي وكأنها قرية للمتقاعدين. الجميع في المقهى الأول كانوا من كبار السن يلعبون الدومينو ويشربون الشاي. قررنا التوقف لكوب من القهوة ابتعت معه قطعة كعك بالبندق.
على الطاولة المقابلة شاهدنا “كارين” وزوجها من ألمانيا كانت شخصية مدهشة وممتلئة بالحياة وتطلق النكات على نفسها وكيف أنها وحقيبتها باتت مثل أحد أبطال قصة نوتردام ذلك الرجل ذو الحدبة الشهيرة على ظهره. انظموا إلينا وعرفنا أنها مشت الكامينو قبل عشر سنوات أي في سنة 2005 والتقت حينها بشخص اغرمت به و تعاهدوا على اللقاء من جديد في السنة التي تليها اي 2006. حددوا فقط توقيت بداية الرحلة ولم يتبادلوا لا الأرقام ولا العناوين وتركوا لقاءهم للصدفة. في منتصف الرحلة تقريباً وبعد أن فقدوا الأمل باللقاء تقاطعت دروبهم من جديد. عقدوا قرانهم في كنيسة سانتاغو حينما انتهوا من المشوار الطويل. اشارت بعدها ضاحكة لزوجها وقالت: “وها أنا أحتفل اليوم مع هذا الرجل التعيس الجالس أمامكم بالذكرى العاشرة لزواجنا”
أنطلقا جميعاً نحو “ناخيرا” Nájera وجهتنا القادمة ومكان المبيت لهذه الليلة. كروم العنب كانت تحيطنا من الجانبين. الأغصان مورقة وتتدلى منها عناقيد العنب الأحمر الناضج. مشهد يغريك على قطفها وغمرها في مياه الينابيع الصغيرة الباردة وأكلها مباشرة من المزارع.
ناخيرا مدينة صغيرة تلمح من بعيد حائطها الأبيض الممتلئ بكتابات من كل اللغات وكأنها رسائل لعابري الكامينو. عندما وصلناها كانت القمامة منتشرة في ساحاتها الداخلية وأزقتها. تبين لنا لاحقاً أنها آثار الليلة الماضية حيث كانت احتفالات بداية مهرجان الربيع la Feria de Abril الذي يجتاح عموم أسبانيا وبالأخص اشبيليا في الجنوب. رقص وملابس زاهية ومأكولات الشارع المتنوعة والكثير من الموسيقى والصخب.
وجدنا في طريقنا فندق صغير على الناصية اسمه Hostal Hispano. الح علي رفاقي مشاركة الغرفة معهم بالمجان ولكن رفضت بأدب واخترت دفع اربعون يورو للحصول على غرفة منفردة بحمامها الخاص. اتفقنا على اللقاء في المطعم القريب في تمام الثامنة. بعد الاستحمام والراحة وترتيب متعلقاتي، ذهبت للمطعم ووجدت اصدقاء الرحلة الذين باتوا مثل عائلة جديدة لي. العشاء كان طبق باييا كبير تشاركنا فيه جميعاً. ابتسمت في داخلي لاندهاشهم أن السلطة الاسبانية تحتوي على بيض مسلوق وتونة.
عند عودتي للفندق وجدت سيدة مسنة تجلس على الأرض أمام الغرفة. نهضت حينما شاهدتني واعتذرت كثيرا لحجبها طريقي. قالت لي ان زوجها في الأسفل نسي المفتاح وانها تحتاج للدخول للحمام بشكل عاجل. دعوتها بلطف لاستخدام حمامي وغمرتني بعدها بأجمل عبارات الشكر والإمتنان لإنقاذي حياتها على حد تعبيرها. عاد زوجها بالمفتاح ودعوني لغرفتهم وقدموا لي قطعة من الشكولاتة الداكنة عربون صداقة جديدة.
علاقتهما مدهشة ومتقدة بالعاطفة رغم كبر سنهما. تعامله معها يذكرنا بالنبلاء والفرسان في القصص القديمة. يحيطها بحب ويقول هذه “جوهرتي”. “انستازيا وتايغ” زوجان مسنان من ايرلندا. مر على زواجهم أكثر من ثلاثة وخمسين عام. سألته عن سر العلاقة الجميلة هذه فأخذ يتندر على زوجته ويقول انها مثل المطاط ابتعد عنها وتلتصق بي من جديد. ضحكنا للتشبيه ولكن عاد لجديته وقال أنه يرى أن المرونة في التعامل سبب بقاءهم كل تلك السنوات مع بعضهم البعض بالإضافة لقليل من التنازلات وغض الطرف عن العيوب. بعقلانية شديدة وصوت رخيم وكلمات مفهومة ومحددة قالت انستازيا: “بعض الأوقات ننسى وعودنا لبعض من حب و رعاية واحترام ونتعرض مثل غيرنا لضغوطات الحياة”. ذكرت لي أنهما اتفقا على أن لا ينظران لهذه الأمور كضغوطات بل كتحديات تقربهم من بعض. والكامينو ببساطة مثل الحياة يضع في دربك أمور يجب أن لا تراها كعقبات بل كفرص تجعلك تنمو وتنضج.
أدون الآن قصتهما كما سمعتها منهما في صالة الكمبيوترات ببهو الفندق وبجانبي أحدهم يستمع لأغنية خوليو اغليسيوس Guantanamera. اعرفها من قبل ولكن قبل ختام التدوينة قررت البحث عن معناها فوجدت أنها للشاعر الكوبي خوسيه مارتي الذي عاش في اسبانيا واغرم بالبلد وله تمثال في وسط مدينة كاديز الساحلية. والكلمة معناها “سيدة من غوانتانامو”.
مسار رحلة اليوم : Logroño – Navarrete – Ventosa – Nájera (29km)
10th night stay: Hostal Hispano .. Paseo San Julián, 10, 26300 Nájera, Spain
Photo courtesy: https://www.intermundial.es
.