نعم .. وصلت .. Day 32

Santiago-Compostela-1160x400


“I did it”


 

كنت أعتقد أني وحدي من اختار المشي باكراً اليوم حتى أصل لسانتياغو قبل الظهر وحضور مراسم المدخنة العملاقة في الكاتدرائية. كل يوم وعند الساعة الثانية عشر ظهراً، يتم إشعال بخور في مدخنة تعد هي الأكبر والأضخم في العالم.

في الماضي كان الرحالة يدخلون الكاتدرائية بعد كل هذا المشي لمسافة 800 كيلو وهم في حالة مزرية من تدني مستوى النظافة الشخصية. رائحتهم كريهة ومنفرة. فقرر الأساقفة أن يتم عمل طقس خاص يقلل من هذه الروائح ، فجاءت فكرة المدخنة العملاقة تلك.

في يومنا الحاضر ، يأتي الناس لحضور تلك المراسم من باب السياحة والفرجة في المقام الأول فمستوى الوعي بالنظافة الشخصية قد زاد عن قبل بكثير. هممم .. حسناً ، نوعاً ما.

لا أريد أن ابقى في سانتياغو وقتاً إضافياً واليوم يعد فرصتي الوحيدة لمشاهدة تلك المراسم الغريبة بالنسبة لي لذا يتعين علي النهوض مبكراً والانطلاق حتى لو في جنح الظلام.

الخامسة صباحاً لليوم السابع من أيار. السماء لا تزال داكنة ، مشيت مستعينة بكشاف مثبت على رأسي لم أستخدمه إلا مرات نادرة جداً للأمانة.

المطر يتساقط بنعومة ثم ما لبث أن توقف ومنح الأرض تلك الرائحة الطازجة و المميزة بعد سقياها. برودة الجو تلفح وجنتي تماماً مثل أول يوم نزلت فيه من الحافلة في القرية الفرنسية “سان جان بييه دو بور” . قبل شهر من الآن! .. تحديداً شهر وثلاثة أيام وعشرون ساعة وسبع دقائق حتى لحظة كتابتي لهذه التدوينة.

حمدت الله كثيراً أن هناك مجموعة من الرحالة على نفس الطريق. كشافات الضوء الصغيرة كانت تجعل منهم أثناء المشي مثل حبات من النجوم المتلألئة في وسط السماء السوداء. وجودهم أمامي ومن حولي منحني كثيراً من الاطمئنان والراحة رغم أنهم غرباء ولا أعرف أحداً منهم. الجميع يمشي في صمت وجدية وتركيز. كل منا انشغل في حوارات طويلة مع النفس. نحن جميعاً على بعد كيلومترات بسيطة لنهاية مغامرة هذا الكامينو الطويل. بكل ما فيه.

سلكنا الطريق الذي يعبر من خلال غابة البلوط الكبيرة. تنوع الطريق ما بين أسفلتي صلب وترابي موحل قليلاً.

انقشع الظلام قبل أن أدخل لقرية Amenal وكانت هناك إشارات وأسهم صفراء ترشدني أن الطريق سيأخذ منعطف من تحت أحد أنفاق الخطوط السريعة. بداخل النفق رسومات وكتابات استطعت أن أميز منها رسائل فريق البيتلز الداعية للحب والسلام وشحذ القدرة على الخيال.

بعد تلك القرية مررت بأول لوحة إرشادية خشبية تدل على اتجاه مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا. رسالة الطريق لي بأن اواصل المشي فلم يتبقى إلا القليل.

اقتربت من قرية San Paio ويميزها ذلك النصب الحجري ذو الصدفة معلناً دخولي رسمياً للمنطقة الإدارية الخاصة بالمدينة. توقف العديد من الرحالة أمام العامود الحجري القصير والتقطوا العديد من الصور.

مررت بأطراف المطار الدولي Lavacolla Aeropuerto كانت أسلاكه الشائكة تحمل العديد من قصاصات الورق والصلبان الخشبية الصغيرة التي تركها الرحالة كتذكار أثناء مرورهم بالمكان.

Lavacolla بلدة صغيرة تعتبر من ضواحي المدينة. مكانتها التاريخية تعود لوجود نهر Rio Sionlla حيث يقوم الحجاج المسيحيون بالاغتسال فيه قبل أن يدخلوا للكاتدرائية في سانتياغو. كان يتعين عليهم الاغتسال بالكامل وتحديداً مناطقهم الحميمة فقد عرفوا بإهمال جزئية الاستحمام وكانوا يسخرون و يتندرون على المسلمين واليهود لأنهم أكثر اهتماماً بالطهارة والنظافة الشخصية.

يوجد بها ثاني صليب مزدوج مثل ذلك الذي رأيته في قرية Lameiros قبل ثلاثة أيام. جهة تحمل صورة للسيدة العذراء مغروس في قلبها سيف طويل كناية عن الألم والحزن والوجه الآخر كان لعيسى عليه السلام مصلوباً “بحسب إعتقادهم”.

توقفت في مقهى Casa de Amancio في بلدة Vilamaior ، تناولت قهوة وفطيرة تفاح على عجل ثم واصلت المسير. الأبقار كانت تصطف على جانب الطريق في الحقل القريب وكلاب المزارع تنتشر بكثرة وتبعث في نفسي الكثير من التوتر.

مررت بمحطات التلفزيون واستوديوهات التصوير الخاصة بقنوات TVG تابعه لتلفزيون غاليثيا و TVE القناة الرسمية في اسبانيا “تعادل القناة الأولى في السعودية”. تلك المحطات أقامت مكاتبها على تل مرتفع وأحاطت المباني بأشجار كثيفة تم تقليمها بشكل مميز على شكل وجوه وحيوانات.

بعد قرية San Marcos بكيلو متر واحد تقريباً ، كنت على قمة تل أسمه Monte do Gozo أو جبل الفرحة. سبب تسميته تعود للقرن الثاني عشر. عند تلك النقطة ، تمكن الرحالة والحجاج قديماً من مشاهدة أبراج الكاتدرائية في سانتياغو وكان منظرها يبعث في قلبهم الفرح والسرور لقرب انتهاء مشوار الكامينو.

اليوم ، لم أتمكن من رؤية سانتياغو من ذلك التل بسبب الأشجار الضخمة التي تحجب الرؤية والبنايات التي أحاطت بأطراف المدينة.

كان هناك نصب تذكاري على القمة من المعدن المصقول قاعدته من حجر وله مثل الأقواس المتداخلة يعلوها صليب شفاف من الزجاج. تم بناء هذا النصب بمناسبة زيارة البابا يوحنا بولس الثاني للمدينة في عام 1989 احتفالاً بيوم الشباب العالمي. القاعدة تحمل رسومات مختلفة في كل جانب من جوانبها الأربعة.

الرحالة يعتبرونها نقطة مهمة لالتقاط الصور التذكارية. تورطت أنا بالتوقف وتصوير بعضهم رغم أنني كنت على عجلة من أمري. بالقرب من المكان هناك منحوتة أخرى شهيرة أسمها La llegada  أي “الوصول” وهي تمثل أثنين من الحجاج القدماء رافعين أذرعتهم مشيرين للمدينة في الأسفل والتي تبعد كيلومترات بسيطة فقط.

في هذه النقطة ولأول مرة تختفي الأسهم الصفراء أيقونات الطريق أو قد تكون موجودة ولكن لم أنتبه لها. حتى علامات الطريق التي كانت تمثل لي مثل العد التنازلي ، اختفت هي الأخرى عند الكيلو 11.

اخيراً وصلت لسانتياغو دي كومبوستيلا Santiago de Compostela أو كما عرفها العرب الأوائل بـشنت ياقب أو يعقوب حيث تم دفن يعقوب حواري عيسى عليه السلام في داخل الكاتدرائية هناك. وأصبحت المدينة الثالثة في الأهمية للحج المسيحي بعد روما والقدس.

سانتياغو تعني القديس يعقوب أما كومبوستيلا فتعني حقل النجوم. لأن القدماء كانوا يستدلون بالنجوم كي يصلوا لهذا المكان ، واليوم تحل الأسهم الصفراء مكانها في إرشاد الرحالة من كل مكان حول العالم.

على الرغم من بقاء الحضارة الاسلامية في الأندلس لمئات السنين إلا أن تلك المزارات المسيحية قد تم الحفاظ عليها واحترامها وصيانتها في حالة نادرة من التعايش السلمي والعقائدي لحكام تلك الحقبة. كل حاكم مسلم يتعاقب على إمارة هذا الجزء يقوم بإظهار سماحة ديننا لمعتنقي الملل الأخرى في أبهى الصور.

واصلت الطريق لأسفل التل ولاحت لي المدينة بطرقها السريعة وجسور المشاة المعلقة ثم بعد ذلك الدوارات وإشارات المرور داخل مناطق مأهولة بالسكان سريعي التنقل. نوع من الصدمة الحضارية حدثت لي بعد كل هذه المدة التي قضيتها وأنا اعبر قرى صغيرة وبلدات. المكان يعج بالحركة وضجيج الدراجات النارية في كل مكان. في هذه المرحلة من مشواري ، بدأت انتبه لرجوع الأسهم الصفراء وأتبعتها من جديد.

دخلت عبر حديقة عامة يوجد بها لوحة ترحيبية ضخمة ذات حروف حمراء بارزة وخلفيتها أسلاك متداخلة مكتوب عليها Santiago de Compostela وخلفها عامود شهير على شكل بوابة أسمه Porta itineris Santi Jacobi أي بوابة الكامينو في إشارة ترحيبية لكل عابري هذا الطريق التاريخي. العامود الغرانيتي كان يحمل خمسة رسومات تشير للكامينو حيث تلخص مبررات هذا المشي بأحد الأسباب مثل الدين ، الروحانيات ، الثقافة ، علم الاجتماع او الرياضة.

بدأت بالدخول لأسوار المدينة العتيقة عبر Porta do Camiño وهي النقطة التي يعبرها كل الرحالة القادمون من جنوب فرنسا. بعدها بخطوات لاحت لي أبراج الكاتدرائية من بعيد. وأقتربت للنهاية أكثر من ذي قبل.

مررت بكنيسة قديمة أيضاً أسمها Igrexa das Ánimas تحمل واجهتها نقوشاً بديعة منذ القرن الثامن عشر.

عرفت أنني سأدخل لوجهتي النهائية من الساحات الخلفية عبر شوارع قديمة وأرضيات مرصوفة بالحجر. عبرت قنطرة تاريخية ضيقة مثل النفق الحجري وبمجرد مروري في منتصفها أنطلق عازف القربة ينشر موسيقاه الجاليكية في المكان تحية لكل عابري الطريق خاصةً من يحملون حقائبهم على ظهورهم. كنت وحدي من توقف أمامه قليلاً تقديراً له ولعزفه البديع ثم وضعت بعض القطع المعدنية في صندوق صغير من أمامه وواصلت المسير.

لليسار كانت الكاتدرائية بكل نقوشها الخارجية المبهرة وأبراجها الطويلة وبواباتها الضخمة.

لقد وصلت!

مشيت للأمام حتى أصبحت في منتصف الساحة المقابلة. ثم أنهمر المطر في لقطة سينمائية بديعة بقيت لدقائق أراقب البشر يركضون أو يفتحون مظلاتهم بسرعة وهم في حالة من الضحك والفرح. الكاميرات لم تتوقف عن التصوير وانشغل الناس بالتموضع أو القفز أمام العدسات وصنع الذكريات الخاصة بهم.

رأيت بعضهم يقذف بحقيبة الظهر في الهواء أو ينبطحون على الأرض الحجرية المبتلة أو يحبون كالأطفال معلنين وصولهم بطرقهم الخاصة.

وأنا !

لم أكن أشعر بأي شيء على الإطلاق ! كنت أشعر أنني من المفترض أن أشعر بشعور ما حينها ! ولكن لم أشعر بشيء !

أنا ممتنة فقط أنني وصلت إلى هنا متحدية قدراتي وذاتي. إنجازي الخاص بي وحدي.

قطعت أكثر من 800 كيلو متر مشياً على الأقدام خلال دولتين و من خلال طريق عتيق عبره ملايين البشر منذ أكثر من ألف سنة وحتى اليوم. مشيت في أيام شمسها حارقة ، برودتها قارصه ، مشيت في سهول وجبال وتلال ، مشيت رغم تقرحات القدم وأوجاع الظهر ، مشيت وحيدة أو بصحبة بشر وحكايات …  مشيت !

لم أعد للواقع إلا على أصوات من حولي تهتف لي “بونو كامينو ، بونو كامينو ” ابتسمت لهم و ركضت لداخل الكاتدرائية حتى لا يفوتني عرض المدخنة العملاقة.

المدخل كان عبارة عن واجهة حديثة وخلفها الواجهة الأصلية التي تحوي عامود ضخم يعلوه تمثال للقديس جيمس أو يعقوب الحواري أسفل العامود هناك حفر خاص على شكل أصابع اليد ، اعتاد المسيحيون أن يضعوا يدهم اليمنى فيه للمباركة. فوق العامود هناك تمثال ضخم لعيسى عليه السلام “بحسب اعتقادهم” محاطاً بجميع حواريه وأنصاره.

أسقف الكاتدرائية عالية جداً ومقوسه ، بعض جدرانها مغطاة بالكامل بالذهب الخالص واللوحات الفنية الضخمة.  اصطفت المقاعد الخشبية المصقولة على الجانبين ولاحظت أن أطراف المقاعد عليها نقش الصدفة الشهير. للأمانة الجو كان خانقاً لكثرة البشر فليس بالضرورة أنهم قادمون للعبادة ولكن هذا المكان عبارة عن مزار سياحي بامتياز.

المذبح الرئيسي مغطى هو الآخر بالذهب وتم تطعيمه بعدد كبير من الجواهر التي منحته فخامة مضاعفة.

بدأ القس بترديد كلمات بالأسبانية لم ينتبه لها أحد فالكل قد تعلقت أعينهم في السقف إنتظاراً لعرض المبخرة العملاقة.

حضر ما يقارب للسبعة من خدام الكاتدرائية يلبسون زي موحد وداكن اللون من العصور الوسطى ووقفوا ممسكين لحبل ضخم متصل بالسقف وموصول في نهايته مبخرة عملاقة من الفضة يطلقون عليها أسم botafumeiro. كانت بحجم رجل ضخم تقريباً.

ومع بدء ترانيم الراهبات ، دفع أحدهم بالمبخرة لكي تتأرجح  عالياً في الهواء مطلقة بخوراً كثيفاً له رائحة الخشب المحروق المرشوش بعطر رخيص. استمر الخدام بجذب الحبل الضخم وكلما جذبوه أكثر ، تأرجحت المبخرة فوق رؤوسنا أكثر يميناً ويساراً. استمر العرض وسط شهقات الحضور لما يقارب من الخمس دقائق انتهت بتصفيق حاد من الحضور رغم أن تقاليد الكنائس تمنع ذلك.

في غرفة سفلية صغيرة تم وضع ضريح يعقوب الحواري. وقفت مجموعة من الناس أمامه في حالة تأثر غامرة ينظرون للتابوت وبدأت إحدى السيدات تدخل نوبة بكاء بصوت مسموع كان بودي أن اقف خلفها واصدمها بمعلومة أن هذا ضريح مزيف وغير حقيقي تم وضعه هنا ونسج قصة خيالية عنه من أجل مكاسب سياسية ودينية بحته أيام الحروب القديمة.

لتكملة مشوار الكاتدرائية كان من مخططاتي أن أصعد لأعلى نقطة وعبر ممر ضيق وطويل وجدت نفسي أمام طابور من البشر ينتظرون دورهم للاقتراب من تمثال ذهبي ضخم للقديس يعقوب. من طقوس الكاثوليكيين أنهم يحتضنون التمثال من الخلف ويرددون صلواتهم وأمنياتهم. أما أنا فقد استغليت تلك النقطة المرتفعة حتى أتمكن من رؤية المكان من هذا العلو واختتم بذلك زيارتي هنا.

ذهبت بعدها لمكتب الحجاج أو المكتب الذي يعطي شهادات العبور واتمام الكامينو لكل من مشى هذه المسافة سواء على الأقدام أو الدراجة أو ركوباً على دابة. المكتب له فرعان قريبان من الكاتدرائية أحدهما في شارع Rúa Vilar والآخر في Rúa Carretas.

الكومبوستيلا ، هو أسم تلك الشهادة المكتوبة باللاتينية القديمة ، منحتني إياها شابة صغيرة سألتني عن أسمي وطريقة كتابته وسألت إن كنت قد مشيت المسافة من فرنسا فأجبتها ” مشيت كل بقعة وشبر من هذا الطريق وعلى الأقدام”.

 

…. “يتبع في التدوينة القادمة” !

 

.


مسار رحلة اليوم : O Pedrouzo –  Santiago de Compostela  (20 km)
33rd night stay:  Hotel Montes .. Rúa Raiña, 11 , 15704 Santiago de Compostela, Spain
Photo courtesy: Google images

 

2 thoughts on “نعم .. وصلت .. Day 32

  1. مشيت على طريق الحواري يعقوب خلال شهر ابريل وماي ٢٠١٦ .. اعتقد انك سبقتيني بمسيرة عدة ايام او اكثر ..

    استمتعت بقراءة المدونة وكأني اقرأ معاني اخرى لاني عشت ذات التجربة .. او حتى لو تكلمت عن مكان سكن سكنت فيه او مقهى جذبني مثل مقهى النمل ..

    الكامينو كان شي عميق ، يجعلك اكثر فضول واكثر رغبة .. ومتخم بالحكايا بشكل لذيذ

    Buen Camino

  2. “ومتخم بالحكايا بشكل لذيذ”
    الجملة أعلاه كانت ملخص جميل منك عن الكامينو ..
    أمنياتي لك بمزيداً من الدهشة اللذيذة في ترحالك القادم ..

    و
    Buen Camino دوماً

Comments are closed.