“أحذية لوبوتان، لا مجال لها في هذا المكان” .. ليكن هذا شعارك وأنت تأخذ أولى خطواتك الثلاثمائة عبر درجات من الخشب العتيق المرصوف لتنطلق نحو ثاني أعلى نقطة في باريس. لا تتعجب كثيراً حينما تمشي في ازقتها المتعرجة وينتشلك شعور غريب يبعدك عن كل ما يمتُ لصخب الشانزيليزيه واللاديفانس، فـتلّة المونمارت بحوانيتها ومقاهيها ماهي إلا قطعة هادئة من الريف الفرنسي تم ضمّها لباريس في العام ١٨٦٠.
ستدفعك محطة المترو “أونفيرس” Anvers خارجاً لتغوص في بحر من البشر والبضائع الرخيصة والتذكارات الباريسية الشهيرة.
لوهلة ، ستتلذذ بممارسة الانعزال الذاتي حتى وان كنت ضمن فوج من السياح. لن تصحو من حلمك الخاص إلا على صراع الباعة الأفارقة والبنغال لجذبك نحو اكشاكهم الضيقة ولملمة يوروات متسربة من جيبك قبل أن يتلقفك غيرهم أعلى التلة.
حاسة الشم لن تكون الأقل حظاً في هذا المكان، شريط غير مرئي من العبق سينتشلك نحو منصات “الكريب” الساخن المدهون بشكولاتة البندق اللذيذ. “ليليا” سيدة خمسينية سمراء تنظر مباشرة في عينيك، تهديك إبتسامة على عجل وتعدك أنها ستسكن ذاكرتك مطولاً بعد أن تمد لك بلفائف هذه الوجبة الخفيفة والفرنسية بإمتياز وتنفث معها تعويذة تجبرك على العودة إليها وإن طالت بك سنوات الفراق عن مدينة النّور.
تلوح لك مباشرةً كنيسة “القلب المقدس” Sacré Coeur فوق “جبل الشهداء” Montmartre حيث يعود سبب التسمية-وحسب معتقداتهم الدينية- نسبة للشهيد سانت دينيس، أول أسقف لباريس، الذي ُقطع رأسه في أعلى التلة في القرن الثالث لما قبل الرومان الوثنية وفي الوقت نفسه تخليداً لأكثر من 52,000 من ضحايا حروب كثيرة دارت رحاها في نواحي التلة.
ستُدْهَش أنها ليست الكنيسة الأقدم او الأكثر عراقة في باريس التي تفصلك عنها مباشرة ساحة “لويز ميشيال” Louise-Michel وعن يسارها تتموضع ببهجة لعبة الأحصنة الخشبية الدوّارة التي تشتهر بها.
ولبلوغ قمة التلة حيث كانت أعلام المنتصرون في حروب سابقة ترفرف, ستجد الى يسارك العربة الكهربائية المائلة والتي بإمكانك استخدامها مقابل ستة يوروات لتنقلك لأعلى نقطة في غضون دقيقة ونصف، أو المراهنة على قوة قدميك والبدء بتسلق أكثر من ثلاثمائة درجة خشبية كانت قديماً مرادف لعقاب يومي وشاق لسكان المكان من بائعات الهوى والمخمورين وكأنهم يجلدون ذاتهم استغفارا لخطاياهم في ليالي المونمارت الصاخبة.
بول آبادي ، معماري فرنسي فاز من بين ٧٧ متسابق بتصميم كنيسة القلب المقدس ومات قبل أن يراها تماماً كما ينظر إلي عمارتها بإجلال أكثر من ٢ مليون سائح سنوياً منذ العام ١٩١٤ تاريخ إتمام البناء وحتى اليوم .
وخلافاً لما جرت عليه عمارة الكنائس في باريس ، تم بناؤها على الطراز البيزنطي بقبب ثلاثة من الخارج ولوحة فسيفساء ضخمة من الداخل وتم رصف منمنماتها لإحداث دهشة كبيرة لكل من يتأمل فن عمارتها العريق عبر ملحمة شعبية شارك فقراء باريس أثرياؤها في التبرع لتمويل كامل البناء.
يقف الزوار كثيراً أمام مهابة مشهد بياض الكنيسة وينسجوا حولها قصص روحانية كلاً حسب مخيلته و مرجعيته العقائدية، ولكن في حقيقة الأمر فبياض القبب المشع ماهو إلا من تأثير نوعية الحجر الجيري المستخدم في البناء والذي تم جلبه خصيصاً من اقليم “شاتو لاندون” Château-Landon الواقع في شمال باريس. هذا الحجر يتعزز لونه ويتوهج حينما يسقط المطر ويغسل الارجاء وكلما سقط المطر، ازداد ألق المكان.
تشاهد جميع ما سبق حينما تقابل الكنيسة تماماً وبمجرد التفاتك للوراء وإعطاء الكنيسة ظهرك ، تسرقك لحظة باريسية أخرى لن تنساها ما حييت حيث تجد نفسك أمام صورة بانورامية كاملة لهذه المدينة الخلابة. تفترش أحياء باريس الأرض وتتمدد حتى يصل بك نظرك لمشاهدة برج ايفيل من حيث تقف قدميك الآن. من هنا بإمكانك مشاهدة أسطح البنايات العتيقة وأسقف القرميد الرمادي وكأن المدينة تحولت أمامك إلى لعبة ليغو صغيرة والبشر في الاسفل أصبحوا جزيرة من الاقزام. أما إن اردت ان ترتفع أكثر فهنالك سر صغير للمكان لا يعلمه إلا الباريسيون و يتشاركون فيه فقط مع عشاق المدينة الحقيقيون ألا وهو أن بإمكانك بلوغ أعلى نقطة للمدينة إذا تسلقت درجات القبة الكبيرة لكاتدائية القلب المقدس ، فهذه النقطة تحديداً هي أعلى قمة في باريس على الاطلاق.
المحزن أن جميع السياح يرتادون الجهه الأمامية من الكنيسة والحديقة المقابلة لها ويفوتون على أنفسهم رؤية حقيقية للمكان ونادراً ما يلتفت أحد للجزء الخلفي له. فعشاق العمارة والبناء على موعد مع مشاهدة معمار كنيسة أخرى أصغر حجماً وأقل شهرة وهي “سان بيير دي مونمارت” Saint-Pierre de Montmartre لا تقل نقوشها روعة عن جارتها. وإن كنت من زوار باريس في اكتوبر/تشرين الأول فهو الوقت الانسب لمشاهدة حديقة النباتات البرية -أيضاً خلف الكنيسة- والتي لا تفتح أبوابها إلا في ذلك الشهر من كل عام. في حال ان بحثت عن بضع لحظات من الهدوء، فبإمكانك الجلوس على أحد المقاعد الخشبية القديمة والتمتع بجمال المدينة على مد نظرك بعيداً عن صخب السياح. أما في المساء فتضفي إنارة الأعمدة الحديدية العتيقة طابع رومانسي لهذا الجزء المنسي من المكان فيتهافت إليها العشاق لتترسخ باريس في ذاكرتهم كبلد الشاعرية والحب الخالد.
عن يمين كنيسة القلب المقدس، وعبر شارع متعرج صغير تصل إلى “بلاس دو تيغت” Place du Tertre وهي كناية عن ساحة صغيرة مربعة الشكل تعد القلب النابض لمقدمي عروض الشارع الحية والرقص و لفن الرسم وهي ملتقى كل من يمر بباريس من الفنانين. يحيطها من كل الجهات مقاهي صغيرة تمد ألسنتها من مقاعد البامبو لتتشابك وتتداخل حتى تظن أنك في مقهى واحد كبير. يتخذ كل رسام مقعده وسط الساحة كما ينتشر البقية جلوساً أو وقوفاً من حولهم والفرق بينهم أن من يرسم داخل الساحة يكون قد دفع رسوم إشتراكه وأجرة المكان وهو بذلك رسام مُرخص له من قبل البلدية للتواجد في الساحة أما البقية فهم رسامون هواه وفي الأصل مهاجرون غير شرعيون يمتهنون الرسم ليس حباً بل وسيلة لكسب قوت يومهم والنتيجة تقول أن هناك معادلة طرديه، كلما رخص ثمن الصورة ألمرسومة ، قل مستوى الإتقان وخفتت البهجة في قلب السائح حينما يرى صورته التي يحلم بها أقرب ما تكون لكاريكتير مضحك.
ستكون محظوظاً إن استطعت الإفلات من قبضة هواة الرسم اللحوحين وانطلقت تهيم في المكان تحيطك أرواح عظماء الفن الراحلون “رينوار” ، “ماتيس” ، “كلود مونيه” ، “سيزان” ، “بيسارو” وغيرهم. وبمجرد أن تقف أمام العقار الذي يحمل رقم 54 في شارع “لوبيك” Lepic وتمد نظرك للطابق الثاني ستعلم أن “فنست فان جوخ” قد عاش هنا ورسم مجموعته الشهيرة “لو مولان دو لا غاليت” Le moulin de la galette ولو اتجهت قليلاً نحو “الباتو لا فوار” Bateau Lavoir ستكون مباشرة أمام الغرف الضيقة من شارع “غابرييل” Gabrielle التي استقر فيها “بابلو بيكاسو” وكان في بعض الليالي ومن شدة افلاسه يقايض إحدى لوحاته مقابل زجاجة خمر.
نزولاً من تلة المونمارت، ستجد طاحونتي هواء إحداهما يعود بناءها للقرن السابع عشر وهي “المولان دو لاغاليت” (Le Moulin de la Galette) وكانت قديماً حانة فرنسية أقرب إلى “كباريه” يقدم عروض راقصة لا تخلو من المجون والعربدة، أما اليوم فتحوّل المكان لمطعم صغير وحميم أسفل التل يقدم أطباق محلية بصحبة صوت مطربة فرنسا الأولى “ايديث بياف” ومعزوفات الاوكرديون العريق. أما إن أخذتك خطاك لشارع “دو كليشي” (De Clichy)، فأنت بمحاذاة معقل رقصات الكانكان والطاحونة الثانية في المكان –بل الأشهر- وهي “المولان روج” (Le Moulin Rouge) المرتبطة مؤخراً بإسم الممثلة استرالية الأصل “نيكول كيدمان” في فيلم يحمل إسم هذا الملهى الشهير ويحكي جانباً مما جرى فيه من أحداث وقصص. شهد هذا الملهى الباريسي في أوج مجده، توافد زبائنه الأثرياء والساسة ذوي النفوذ في البلاد كما شهد في العام 1890 ظهور أول حالة عُري كامل لإحدى الراقصات المشاركات بالعروض واُعتبرت وقتها فضيحة مدوّية هزت أرجاء باريس.
الطريف في الأمر أن مالك ملهى المولان روج وعند اكتمال بناء كنيسة “القلب المقدس” أعلى التل وبدء قُداس يوم الأحد أخذ يركض مولولاً “الشيطان ، الشيطان!” يقصد به الكنيسة والقائمين عليها فما كان من أحد المارة إلا أن رد عليه “الشيطان الحقيقي يدير الملهى اسفل التل”
لم ينتهي مشوارك هنا، بل لا زالت الطرقات الحجرية المرصوصة تتلوى أمامك مثل ثعبان نشط لا يمل من الحركة. متعة اكتشاف المكان على قدميك لن توفرها لك باصات الأفواج السياحة فهي لا تمنحك رؤية حقيقية للمكان ولا حتى تعطيك ذلك الشعور اللذيذ بالتماهي مع الحياة الباريسية بكل تفاصيلها الصغيرة.
سيقودك تعرج الطرقات لبقعة سيريالية هذه المرة حيث يختبئ متحف “سلفادور دالي” في إحدى زوايا المونمارت تتصدر المشهد ساعة ذائبة على غصن يابس في صحراء جرداء وهو العمل الأشهر لهذا الفنان غريب الأطوار الذي اطلق شاربيه وبرمهما للأعلى حتى يقلع عن التدخين.
واصل مسيرك لرؤية السلالم الحجرية التي يشتهر بها المونمارت سواء تلك التي في شارع “غابرييل” او الرئيسية أسفل الكنيسة حيث يترك العشاق بعد رحيلهم عن المكان أقفال حديدية تحمل أسماءهم كاملة او حروف أولى من قصص غرامهم ومفاتيحها غالباً تقذف في “نهر السين” كوعد بالرجوع لمدينة الحب الأولى.
إن استمريت في المشي، فستجد أمامك منزل الفنانة مصرية الأصل “داليدا” فهناك ، يتموضع لها تمثال نصفي امام العقار لم يسلم من عبث المارة الذين لطخوا وجهها بالأصباغ ورسموا لها دموع خضراء تنسكب من عينيها الجامدتين.
لا تندهش إن وجدت السياح يتجمهرون حول تمثال بلاتيني لرجل يمشي من خلال حائط فأنت الآن مباشرة أمام الـ “باس موغاي” Passe Muraille التي تقول الأسطورة أنه رجل يمتلك قدرة على اختراق الحواجز والسير عبر الحائط ويتوهم السياح الأجانب أنهم ما إن يلمسوا يده اليسرى فإن القدرات العجيبة تنتقل إليهم لذلك نجد أن اليد اليسرى للتمثال أفتح لوناً من اليمنى لكثرة لمس الناس لها.
على بعد خطوات من مترو “أبيس” Abbesses وتحديداً عن يمينها ، أنت بمواجهة حائط ضخم من الخزف الأزرق توزعت عليه كلمة “أحبك” بـ 250 لغة وأصبح مزار آخر للعشاق في باريس ووجهه مفضلة للسياح الطامعين بكسب ولو القليل من سحر المدينة وحمله لديارهم على شكل صورة للذكرى.
تشتهر ساحة جان غيكتوس” Jehan Rictus المطلة على الحائط الشهير بحلوى الـ “شوروز” Churros فلا يمكن المرور بها دون التلذذ بأصابع العجين الساخن تلك المغموسة في ذرور السكر والقرفة وكأنها زاد مسافر لابد من حمله خلال الرحلة.
وإن كنت مثلي تقترن المقابر في ذاكرتك الطفولية بالأشباح ، فلك أن تستعجل خطاك وأنت تمر بجانب مقبرة المونمارت القريبة من مسار طريقك فهناك تسكن رفات العديد من المشاهير مثل “داليدا” ، راقص الباليه الروسي من أصول بولونية “فاسلاف كيسينجكي” ، الكاتب الفرنسي “اميل زولا” رائد المذهب الطبيعي في الأدب ، والشاعر الألماني “هاينرش هاينه” ، وغيرهم من أعلام الأدب والمسرح والسينما.
شارفت رحلتك في تلة المونمارت على نهايتها مع حلول المساء وتوهج المكان بأنوار أعمدة الإنارة القديمة ، لون أصفر باهت يشعرك بالدفء وينسيك تعب المشوار وقدميك المنهكتين وصراخ معدتك الخاوية. لك أن تتبع لوحات الطرقات العتيقة التي مازلت كما هي لم تغيرها بلدية المدينة رغم السنوات الطويلة و تتلمس الطريق نحو المقهى الوردي الصغير على الناصية La maison rose فتسكت جوعك مؤقتاً بكوب ساخن من الكابوتشينو وحلوى الميل فوي بطبقاتها الهشة اللذيذة أو تذهب مباشرة لمقهى “الطاحونتان” Café des 2 Moulins وتحتمي بدفء المكان وحميمية الأجواء وصورة كبيرة في صدر المطعم لبطلة
فيلم “إميلي” وهي تبتسم لك بعيون شقية ماكرة فهنا تم تصوير أحداث الفيلم بالكامل عام 2001.
المأكولات البحرية غالباً ما تكون الخيار الأسهل للسائح العربي في باريس ولا يقدمها في المونمارت أفضل من مطعم “لا ماسكوت” La Mascotte حيث الجودة العالية والأسعار المعقولة وللنباتيين وجهتهم بلا شك أول مطعم نباتي في عموم باريس “او غران دو فولي” Au Grain de Folie ولو واصلت المسير في ضواحي المونمارت ستجد أن محال الفواكهه الطازجة تنتشر في كل الزوايا ومنصات زجاجية تنام وراءها ما بين 350 – 400 نوع مختلف من الأجبان.
لا تفوت على نفسك تناول الخبز الفرنسي الأشهر من مخبز Le Grenier à Pain الحائز على جائزة أفضل خبز فرنسي “باغيت” على مدى سنوات متواصلة حتى اليوم وطعمه اللذيذ بعيد كل البعد على ما اعتدناه في بلادنا فهنا فقط صدقت بنفسي مقولة “أعطي الخبز لخبازه”
لا تهدأ التلة أبداً فمن السادس وحتى العاشر من اكتوبر/تشرين الأول تنشط المونمارت بالكامل وفي كل عام لإستقبال مهرجان العنب والنبيذ حيث يتنافس المزارعون على جودة محاصيلهم والتفاخر بسنوات تعتيق نبيذهم وكلما زادت حلاوة المشروب، كان الأوفر حظاً في المبيعات. أما أنا ومع نهاية رحلة المونمارت، أترك لهم نبيذهم المُحلى وأكتفي بقهوتي المرّة.
اقف احتراماً لكتاباتك فقد سطرتي ابداعاً
اتمنى لك التوفيق ومزيداً من الابداع في كتاباتك وصورك
تشرفت بأن تقرأ مما كتبت هنا .. شكري وتقديري لك بندر
وهذا انا من جديد سوف اتوجه لمونمارت وبتوجيه من هاجر