“Modern Shepherd Man”
هذا الصباح حينما خرجت من الفندق كانت ملابسي لا تزال مبتلة قليلاً ولم تجف بالكامل بعد. لحسن حظي أنني قمت البارحة بحشو حذائي بأوراق الصحف التي وجدتها في البهو مما جعلها تجف أسرع.
خرجت عند الخامسة تماماً وضباب خفيف يلف المكان أما الأعشاب فغطاها الندى ومنحت شذاها بسخاء لكل من يعبر الحقول في تلك الساعة المبكرة من النهار.
مررت بعدة مراعي وأراضي زراعية تتخللها غابات صغيرة وأشجار متداخلة وحائط قليل الارتفاع من الحجارة المرصوفة كان عن يساري معظم الوقت. المشهد بالكامل يأخذني لمواقع شبيه في الريف الايرلندي لها ذات الروح وذات الاخضرار الصارخ في لون الشجر والعشب من حولي.
كلما توغلت في الطريق، تزداد الأحراش ذات الظل التي منحتني أجواء منعشة طوال مروري بها. الجسور الحجرية العتيقة فوق الأنهار الصغيرة كان ينمو عليها طحالب وأعشاب متسلقة منحت الجسر منظر فريد وكأنه مرسوم من صور قديمة.
مع إقترابي أكثر من خط النهاية باتت الأفكار تسيطر علي وتسرق مني ساعات المشي الطويلة. لماذا أنا هنا ! مالذي أفعله لجعل حياتي أفضل وأكون بشر أكثر رقي! لن أدعي أنني قد تغيرت خلال هذه الأسابيع البسيطة ولن أدعي أنني توصلت لأسرار الحياة والحكمة. لكن الذي أنا على يقين منه أن هناك شيء صغير قد اكتسبته وبدأ ينمو بصمت وعلى مهل داخل روحي وعقلي.
دخلت عبر إحدى القرى الصغيرة ويبدو أن البيوت التي شاهدتها عن بعد كانت زرائب وحظائر للأبقار. كلما أقتربت منها زادت حدة أصوات الأجراس الحديدة المعلقة على اعناق الابقار وازدات بالتبعية الرائحة المقززة لمخلفات تلك الحيوانات. استمرت الرائحة النفاذة تلك حتى بعد أن تجاوزت القرية بمئات الأمتار.
مررت بسيدة اسبانية شابة وجميلة تلبس الجينز ونظارات الشمس الحديثة وتقف على جانب الطريق أمام قطيع من الأغنام. نعم بالضبط .. كانت راعية تلك الرؤوس من الماشية. بادرتها بقولي “اولاَ سينيورا” تحية لها فما كان منها إلا أن أطلقت بفمها صافرة طويلة وظهر كلبها فجأة وجمع القطيع على جانب الخط حتى أعبر. السيدة هنا تقوم بكل شيء تقريباً ولم تمنعها مدنيتها من تربية ماشيتها بنفسها. “بونو كامينو” قالتها لي باسمة وبعدها افترقنا. يا إلهي نظارتها الشمسية كانت ماركة فيكتوريا بيكهام !! لن أنسى هذا المشهد طيلة حياتي ولم استطع منع نفسي من أن اقارنها برعاة الغنم في بلادي.
لاحظت في عدة قرى أن الكلاب يتم ربطها بوحشية من رقابها أمام المنازل وتظل تنبح بصوت عالي في وجه العابرين. يبدو أنهم يستخدمونهم عوضاً عن جرس الباب.
Biduedo قرية وادعة في حضن الوادي الأخضر. سبب تسميتها بهذا الاسم يعود لكثرة أشجار البتولا المورقة فيها كما يمكن تمييز لوحات المرور التي تحذر سائقي المركبات من كثرة عبور الغزلان البرية للطرق السريعة. تكثر فيها مقاهي الأرصفة والمطاعم الصغيرة ويمكن ختم الجواز من كنيسة صغيرة أسمها سان بيدرو.
عند الوصول لبلدة Triacastela فإنه يتعين على الاختيار بين طريقين. الأول يكون أطول مسافة و يوصلني لمدينة ساموس عبر المناظر الخلابة والقرى الصغيرة المتعددة. اما الآخر فهو مختصر ويكون من ناحية الخط السريع.
هذه البلدة تعد مصدر حجارة الجير في إقليم غاليثيا بأكمله ويفخر سكانها بأنه من حجارة بلدتهم قد تم بناء الكاتدرائية الكبرى في سانتياغو دي كومبوستيلا – وجهتي النهائية – والتي تحوي رفات يعقوب احد حواريي عيسى ابن مريم عليه السلام والذي أسلك أنا طريقه اليوم عبر الشمال الإسباني.
كنت موفقة بإختياري للطريق الأبعد فقد أتحدت مع الطبيعة لساعات عدة عبر غابات وارفة وشعور تام بالسلام الداخلي بعيداً عن صخب السيارات والقلق المصاحب للمشي بمحاذاتها. القرى صغيرة يلفها السكون والهدوء فالجميع من الطائفة الإنجيلية يكونوا هذا الوقت في الكنائس احتفالا بعيد القيامة.
وصلت وجهتي لهذه الليلة. Samo الجميلة تحتضن نهر أوريبيو الذي يمنح سكانها قوت يومهم من ثعبان البحر وسمك السلمون المرقط وهي أطباق المدينة التي تشتهر بها. تعتبر هذه المدينة نقطة بداية الأطباق البحرية في هذا الإقليم فنحن نقترب كل يوم أكثر للمحيط الأطلسي. في أشهر الصيف تقام بها دروس لتعليم الطهي على الطريقة الريفية. عرف سكانها أسطورة شجرة السرو التي كانت تنمو تزامناً مع كل حجر يتم بناءه في الكنيسة القديمة.
فندق Hotel A Veiga ذو طابع ريفي والأجمل أنه مطل على النهر مباشرة. النهر لم يكن منساباً ذو جريان هاديء ولكن كان عبارة عن مجموعة شلالات صغيرة تصدر خريراً مهديء للأعصاب كل ذلك مقابل عشرون يورو فقط.
بعد استقراري وراحتي في الغرفة وتجديد نشاطي، نزلت للنهر وتعرفت بسرعة على “سولانج” من البرازيل. سيدة في منتصف الاربعينات أعلنت ندمها لعدم إقدامها على خطوة مشي الكامينو هذه من قبل. تمنت لو أنها قامت بها وهي أصغر سناً. تقتلها فكرة الخطط المؤجلة في حياتها التي اضاعت عليها العديد من المشاريع. تقول انها استيقظت على فكرة أن الحياة تجري من بين يديها بسرعة وأنها تأخرت في تحقيق كثير من أمنياتها وأحلامها.
كل يوم تذهلني فكرة أن يعري الآخرون أرواحهم لي دون أن أطلب أو اسأل. تذهلني أكثر تلك الجرعة الضخمة من التفاعل البشري الحقيقي التي تصادفني على هذا المسار العجيب.
.
مسار رحلة اليوم : Fonfria – Samo (19km)
28th night stay: Hotel A Veiga .. Avenida Generalisimo 37, 27620 Samos, Spain
Photo courtesy: Google images