“a long but an easy walk”
السعادة بالنسبة لي اليوم الخصها في الآتي:
الاستيقاظ بعد ليلة مريحة في فراش وثير ، إفطار شهي في فندق فخم ، انطلاقة كامينو مبكرة وسط أجواء باردة ومنعشة ، الغيوم ، المشي بين الحقول الخضراء ، عدد قليل من الرحالة سبقوني على هذا الطريق وعدد آخر سبقتهم وكوني في المنتصف منحني شعور مضاعف بالأمان.
تركت ليون في حالة معنوية عالية، وقد بقيت مرتفعة طوال اليوم. تعلمت حتى الآن أن أستمع أكثر لاحتياجاتي وتخصيص وقت لي وحدي بعيداً عن محادثات وقصص الرحالة الآخرين على الأقل لهذا اليوم فلا أستطيع مقاومة حكايات البشر واجد نفسي منغمسة فيها رغماً عني.
للأمانة فقد كان الخروج من ليون لا يتسم بالسهولة الكافية واختفت الأسهم الصفراء واستعنت بلطف السكان المحليين في ارشادي لأسرع طرق الخروج من نطاق المدينة.
المناظر الصناعية غير الجذابة للمنطقة ما تلبث أن تؤدي لطرق الكامينو الرملية المحاذية لخط السيارات السريع. ينقسم الطريق الآن للبلدة التالية احدها أطول بمناظر أجمل والآخر أقصر بطبيعة أقل جمالاً. اخترت الأقصر.
لا استطيع أن أصدق أنني أقترب يوماً بعد يوم من سانتياغو. قرية ” سان جان بييه دو بور” الفرنسية التي انطلقت منها لا تزال طبيعتها الخلابة حيه في جميع حواسي.
مشيت ومشيت بلا موسيقى في أذني ولا أي أفكار في رأسي. فقط الصمت ومحاولة مجاراة أنفاسي على إيقاع خطواتي.
قطعت عدة كيلو مترات في مسارات رملية تخترق طبيعة خضراء بديعة وظهرت لي جبال “كانتابرين” الشهيرة في شمال اسبانيا بقممها المغطاة بالثلج ثم اكتمل جمال المنظر امامي بالتهامي لقطعة حلوى سنيكرز.
عند عبوري جسر بلدة Hospital de Órbigo تذكرت أسطورة من القرون الوسطى كنت قد قرأتها سابقاً عن هذا المكان والتي جاء فيها أن الدون سويرو وهو أحد فرسان ليون النبلاء كان يحمي البلدة من دخول المعتدين وهذا الجسر كان نقطة تمركزه وحراسته. تم أسره واستعباده وتعذيباً له قاموا بإلباسه سترة ثقيلة من الحديد وزيادة في التعذيب وضعوا حلقة من معدن صلب حول عنقه وجعلوه يعبر هذا الجسر ذهاباً وإياباً.
الاسطورة انتهت بأنه كان طوال تلك المدة يصوم ويصلي للسيدة العذراء حتى تنجده وكيف أنها حققت له طلبه وبات هذا الجسر بالنسبة لأهالي البلدة “معبراً للكرام” أو كما يقولون بلغتهم Passo Honroso.
تلك البلدة أيضاً تحمل التأثر الواضح بالثقافة المغاربية من ملبس ذو الوان زاهية مع حضور قوي للموسيقى المراكشية العربية وكيف أنها تزاوجت مع موسيقى اقليم غاليسيا. هذا الإقليم له موسيقاه الخاصة به كذلك وبالأخص العزف بواسطة القربة او ما يطلق عليها عربياً بالمزامير الجاليكية.
فجأة ! يظهر لي “ديفيد” الشخصية الأشهر على خط الكامينو. كتب عنه رحالة كثر وظهرت صوره على العديد من مدونات السفر وكنت اعتقد انه غير موجود او ان دربي لن يقودني إليه على الأقل فمكانه غير مدّون على خريطة هذا الدرب.
ديفيد ببساطة رجل اسباني نذر نفسه وجهده ووقته لخدمة رحالة الكامينو. بيته بسيط و حيطانه الخشبية مرسومة بألوان زاهية وعربة خضراء مبهجة امام المنزل محملة بما لذ وطاب من فاكهة وماء وعصائر جميعها بالمجان ولكن خجل الرحالة من فرط طيبته يحتم عليهم ترك تبرع نقدي بسيط حتى لو لم يطلبه.
لديه اعتقاد ان من يسير على هذا الدرب ضيف عند الله ويجب اكرامه وتوفير الراحة له. ذكرني بأهل قريش قديماً وسكان مكة الآن وتفانيهم في خدمة الحجاج “ضيوف الرحمن”. يا إلهي كم نتشابه !
ومن دون أن أشعر، وصلت لوجهتي لهذه الليلة وهي بلدة Astorga او كما سماها العرب الأوائل بـ أسترقة وهي من الممالك التي كانت تحت الحكم الاسلامي للأندلس. يخترقها نهر تويترو ويمدها بالحياة والجمال. درجة الحرارة أعلى العامود الرخامي وسط الساحة كانت تشير للـ12 درجة مئوية ونسمة الهواء البارد لازالت منعشة.
ابحرت في شوارع أسترقة معتمدة على خريطتي الورقية وكنت فخورة بمهارات قراءتي لها التي زادت في هذا المشوار.
هنا يوجد طريق الفضة وهو مسار تاريخي قديم ومرادف لطريق الحرير الذي يصل للصين.
بعد مبنى كازا بوتينوس الذي شاهدته في مدينة ليون، لمحت في هذه البلدة عملاً أخر للمهندس الأسباني انطوني غاودي Antoni Gaudí والمبنى اسمه Episcopal Palace وهو المتحف الرئيسي هنا. من طريقة البناء الغريبة أيقنت أنه له وبالفعل صدق حدسي.
البلدة صغيرة ولكن ممتلئة بنقاط جذب سياحية كثيرة ومميزة. لذا فكرت أن أستقر أولاً في فندق يكون قريب من كل تلك النقاط ومن بعد ذلك أبدأ جولتي.
أحد الفنادق التي دخلتها كان خانقاً وضيقاً ورائحة السجائر القوية تعج في المكان. اما الفندق الآخر فقد حدث لي فيه موقف طريف فقد اعتدت في الفنادق الصغيرة هنا في اسبانيا على الأبواب الخشبية بمنمنماتها وديكوراتها البسيطة أما هذا المدخل فقد كان من الزجاج الشفاف المصقول والصافي لم أفق إلا على ارتطام مقدمة رأسي بالباب وسط ذهولي وخجلي وضحكات الآخرين المكتومة. لم أملك إلا أن ابتسم ببلاهة واداري حرجي فذهبت مباشرة للاستقبال وحجزت غرفة ولم أسال حتى عن السعر.
الساحات في هذه البلدة ممتلئة بالحياة وكأنها مدينة مصغرة. رأيت متحف خاص بالشكولاته ولكن لم ادخله لضيق الوقت. بعدها اخترت مطعماً جميلاً على الساحة الرئيسية اشاهد من خلاله العابرين وعروض الشارع واستمع لدقات اجراس الساعة الضخمة امامي. طلبت وجبة غداء وانتبهت ان لهم تقليد غريب “او يختلف عنا في بلدي” وهو أنهم يقدمون الطعام بالعكس. تبدأ بوجبة رئيسية ثم طبق السلطة وبعدها قدح الشوربة! الجميل في كل طرق التقديم أنها تنتهي بطبق حلوي تشتهر به البلدة واسمه مانتيكاداس mantecadas وهو شبيه بكعكة المافن.
مشيت حتى اليوم في الكامينو لمدة ثلاثة أسابيع ووفقاً لحساباتي اذا سارت الأمور بمشيئة الله كما هو مخطط لها فسأكون في سانتياغو بعد عشرة أيام.
.
مسار رحلة اليوم : Leon – Astorga (35km)
24th night stay: Hotel Astur Plaza .. Plaza España, 2, 24700 Astorga, Spain
Photo courtesy: Google images.