” old McDonalds’ had a farm”
في ساعة مبكرة من صباح اليوم ، التقيت على الافطار بسيدة ايرلندية أسمها “آن” كانت تحاول صناعة الحكايات لي بأي طريقة وتعلق على كل شيء أمام ناظريها. أيقنت أنها تشعر بوحدة مريرة وكل ما كانت تفعله كان مجرد طريقتها للهروب من الحالة. استمعت لها بإنصات حتى قالت عبارات اعتبرتها أنها خلاصة حديثها وقد تكون خلاصة ما سأتعلمه من مشواري هذا برمته.
اعتدلت في جلستها وقالت بطريقة فلسفية: ” الكامينو عبارة عن ثلاث مراحل. الأولى فترة التكيف ، نصاب بتقرحات القدم وأوجاع الجسد وكل ما يمكن أن يسبب الألم النفسي.
الثانية فترة تأمل ، تبدأ مع بداية المشي الطويل عبر الميسيتا او السهول الشاسعة حينما يتساوى خط الأرض مع السماء ولا نستطيع التمييز ونصاب بما يسمى باللوثة المؤقتة ونبدأ بالهلوسة والحديث مع النفس ونفكر كثيراً. أما الثالثة والأخيرة فهي مرحلة البهجة”
ثم غابت تماماً في عالمها الخاص ولمحت بريق عينيها وانغماسها التام في اللحظة مما جعلني على يقين تام بأنها حتماً تعيش الآن فترتها الثالثة. لم تكن وحيدة كما اعتقدت بل كانت “مبتهجة”
حينما بدأت المشي كان الجو بارداً والسماء ملبدة بالغيوم تماماً. اليوم أمامي آخر قمة جبل في مشوار الكامينو هذا بعد قمة جبل ليون السابقة. وبحسب الخريطة سيكون الطريق أكثر سهولة ويمر خلال الغابات والوديان. لا توجد مرتفات شاهقة بعد النقطة التي سأصلها اليوم.
للأمانة كنت استغرب من تضخيم أمر صعود المرتفعات وهبوطها سواء من خلال قصص الرحالة معي أو حتى من الكتب التي اطلعت عليها قبل السفر. لا أعلم ، ولكن احببت جزء المرتفعات أكثر من السهول ووجدت طبيعتها خلابة أكثر بحيث تنسيني أي تعب.
أول قرية صادفتها كانت Trabadelo جبلية رائعة تتخللها ينابيع صغيرة كان خرير مياها مع أصوات الطيور يجعل من المرور بها تجربة حسية لا تنسى. الشيء المزعج أنه بعد ذلك كان علي أن امشي بمحاذاة طريق سريع والعربات كانت تسير بسرعة كبيرة و في اتجاهي. الوادي الأخضر و كروم العنب والأنهار الصغيرة على جانبي الآخر ولكن لم استمتع بها تماماً لشدة حذري و تركيز انتباهي على الطريق.
انخفضت درجة الحرارة أكثر واعتقد أنها قاربت لخمس درجات ذلك الصباح. البرد احياناً يكون بالنسبة لي وقود يدفعني لزيادة السرعة ويبعث بداخلي النشاط.
وصلت لقرية La Faba الواقعة على متن الجبل تماماً وكان فيها مطعم نباتي تناولت فيه وجبة خفيفة تساعدني على مشوار الصعود اليوم و كنت محظوظة لأن العديد من الأماكن كانت مغلقة أو ستفتح في وقت متأخر بسبب عيد العمال.
أنهمر المطر أثناء تناول وجبتي ولم يمنعي ذلك من مواصلة المشي حتى لا يداهمني المساء فوق الجبل وحدي. المشي تحت المطر بات يضيف لمشواري بعداً جديداً ويزيدني حماسة على تكملته طالما أعددت نفسي جيداً من ناحية الملبس وحفظ متعلقاتي.
المطر جعلني أنتبه للتفاصيل الصغيرة أكثر ، واستمتع بها اثناء تأملي لطريقتهم في تزيين واجهات الحوانيت القديمة والبيوت. شاهدت أحذية للرحالة قد تركوها وقاموا بتحويلها لأصص زرع وزهور في إشارة للنماء والنضج والازدهار الروحي الذي يصيب كل من يعبر هذا الطريق.
اليوم سأنتهي من أقليم قشتالة وليون بالكامل وسأبدأ في الدخول لإقليم غاليثيا Galicia أو ما سماها المسلمون الأوائل بجليقية. عاصمة الإقليم هي مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا وجهتي النهائية في مشوار الكامينو هذا والتي تبعد عني الآن أيام معدودة فقط.
الصعود سيكون لقمة الجبل التي يبلغ ارتفاعها ما يقارب للـ 1300 متر عن سطح البحر. والطريق للجبل أصبح زلقاً أكثر مع سقوط الأمطار بغزارة.
وجهتي لليلة هي مدينة اوثيبيراO’Cebreiro وهي مدينة صغيرة توفر الدعم لرحالة الكامينو منذ مئات السنين. توجد بها اكواخ حجرية ذات شكل بيضاوي أو دائري يطلقون عليها أسم “بالوزا” وهي بيوت سكان المدينة منذ العهد الروماني القديم مقسمة لأماكن نوم ومعيشة وزريبة للماشية. بقي منها فقط تسعة منازل تم تحويل أحدهم لمتحف عرقي يعرض هوية المنطقة وحضارتها القديمة. تذكرت منازل مشابهه لها في جازان تحمل ذات طريقة البناء الخارجي وللأسف لا يحضرني أسمها. سأحاول أن اجد لهما صور وأرفقها مع هذه التدوينة.
في هذه المدينة أيضاً توجد أقدم كنيسة تم بناءها منذ القرن التاسع للميلاد. لفتني أنها لم تحض بالقدر الكافي من الاهتمام رغم عراقتها وندرتها في التاريخ الكاثوليكي او الانجيلي.
تحتوي على كأس وطبق أثريين يعودان لأسطورة قديمة تقول أن كان بها كاهناً متغطرساً لا يلتفت للفلاحين البسطاء حينما يأتون للكنيسة لحضور القداس وكان لا يعاملهم إلا بجفاء شديد ويرفض أن يقدم لهم كسرة الخبز ورشفة الخمر التي عادة ما تقدم بعد القداس. فجأة تحولت الخبزة والخمر لجسد المسيح وهو ينزف في إشارة تأديبية للكاهن على غطرسته وتكريم للفلاحين البسطاء المؤمنين الذي يخاطرون بحياتهم وسط الثلوج والعواصف من أجل حضور القداس.
مدينة اوثيبيرا تحمل بداخلها رفات Don Elias Valina Sampedro وهو كاهن في كنيسة المدينة نذر نفسه لخدمة الحجاج المسيحيين. توفي قبل سبعة وعشرون عام من اليوم وكان له الفضل في فكرة رسم الأسهم الصفراء طوال طريق الكامينو فرانسيس حتى يستدل بها الناس. يوجد له تمثال نصفي بجوار كنيسته تقديراً لجهوده وتذكيراً للناس به.
الملاحظ أنه وبحسب اللهجة الجاليكية فإن نطق حرف الـ “C” في هذا الاقليم يتم استبداله بحرف الثاء ولذلك قصة. فقد كان الملك الحاكم مصاباً بلثغة عند نطق ذلك الحرف ولكي يظهر رجال دولته ولاءهم له قرروا أن ينطقوه بالطريقة نفسها واستمرت العادة تلك حتى يومنا هذا وأصبحت ميزة للإقليم عن بقية المناطق.
مشيت حتى اليوم حوالي 633 كيلو متر ولم يتبقى لي سوى أقل من 155 كيلو متر للوصول لسانتياغو دي كومبوستيلا.
حينما وصلت مدينة اوثيبيرا بحثت في أقرب فندق وفوجئت بعاملة الاستقبال تقول لي “كومبليتو” أي أن المكان كامل العدد ولا توجد لديهم شواغر. كان المطر قد خفت حدته قليلاً لذا لم أمانع من استكمال مشواري للقرية التالية. بمجرد دخولي للنزل وجدت لافته “كامل العدد” أيضاً. همم ، نعم بالضبط ، أنا في ورطة “بسيطة”.
مررت بتمثال من البرونز ليعقوب الحواري “سان جيمس” وهو يصارع الرياح مثبتاً بيده اليسرى على قبعته حتى لا تطير في الهواء ومستنداً على عصاه الخشبية. بالفعل فهذه النقطة واسمها Alto do San Roque وهي على ارتفاع 1270 متر عن سطح البحر عرف عنها أنها أحد تجمعات الرياح المتعاكسة في المنطقة. التمثال مقام على منصة من حجارة الكلس وهي نادراً ما توجد في هذه المنطقة كما أنها تحتوى على نباتات ربيعية وأشجار تنمو فقط في هذه النقطة دون غيرها مثل عشبة الثعلب والزنابق الزرقاء وشجر الدردار والبتولا والبندق وكأن المكان برمته يحمل أسطورة ما وسحر خاص به.
أكملت مشواري للقريتين التاليتين ووجدت نفس الاجابات حتى كدت اعتقد أنني سأنام الليلة تحت الاشجار. بدأ المساء يلقي بظلاله القاتمة وزادت حدة المطر حتى أصبحت السماء وكأنها تنشق فوق رأسي. من بعيد لمحت رحاله كان لهم نفس مصيري ورأيتهم يواصلون المسير للقرى التالية فتبعتهم.
بقيت طوال المساء صعوداً وهبوطاً بين تلال وغابات وتحت وابل المطر الكثيف. هنا بدأت المياه تتسرب لحذائي وتبللت جواربي بالكامل مما زاد من تقرحات القدم لدي.
رأيت الرحالة امامي يشيرون لسيارة أجرة وانقسم بعضهم فمنهم من تكدس و ركبها والبعض الآخر قرر استكمال المشي. عرضوا على أن ارافقهم وأشاركهم بالتكلفة ولكن بقيت مع المجموعة الأخرى وقررت مواصلة المسير. سائقي الأجرة يتكاثرون في مثل هذه الظروف ويساومون الرحالة على أسعار باهظة جداً مقابل تكلفة مشوار بسيط.
انطلقت مع زملاء الطريق للقرية التالية على أمل أن نجد المأوى المطلوب للمبيت فقط. حينما دخلنا قلت للموظفة وصوتي يمتلئ بالأسى “كومبليتو؟” هزت رأسها نفياً و أجابتني أن هناك اسره شاغرة. الغرفة كبيرة وممتلئة ببشر متكدسين ورائحة المكان شيء لا يطاق والحالة العامة ليست آدمية بالمرة. رفضت عرضها وقررت المسير وحدي للقرية التالية.
تبعني زوجان من المانيا كان لهما نفس رأيي وواصلنا المسير بعد أن حل الظلام وقلوبنا ممتلئة بأمل الحصول على أماكن تصلح للمبيت. في هذه المرحلة أصبحت أمشي بشكل آلي بحت لم أعد أشعر لا بتعب ولا برد ولا بلل فقط أمشي وأمشي وأمشي حتى وصلت قرية Fonfria.
وصلت للإستقبال وانا أقطر ماء وتعب وحصلت على غرفة بحمامها وبأقل من عشرين يورو فقط.
أرفق مع هذه التدوينة صورتين للمقارنة الشكلية ما بين البالوزا الاسبانية والعشة الجازانية .. فكم نتشابه يا الله !!
.
البالوزا الأسبانية 
العشة الجازانية 
.
مسار رحلة اليوم : Villafranca del Bierzo – Fonfria (nearly 42km)
27th night stay: Casa de Lucas .. 25, 27671 Fonfría, Spain
Photo courtesy: Google images + جريدة الرياض