مانيانا .. Day 31

Pedrouzo


“mañana ”


 

قررت مقاومة دفء السرير والخروج من الفندق رغم رذاذ المطر الخفيف وبرودة الجو في الصباح الباكر والضباب الباهت الذي لف المكان.

كل يوم أحاول أن أجمع مفردات جديدة حتى تصف جمال الطبيعة في هذا الجزء من اسبانيا وأعجز تماماً حينما أجلس لأدون أحداث اليوم كما أفعل الآن.

غابات الكينا والبلوط والكافور أصبحت تعانق السماء أكثر وتتشابك في الأفق وتحجب الضوء قليلاً. حينما تغيب الغابات قليلاً ، تستلم منها دفة الجمال مروج خضراء بكامل سحرها وبهاءها على مد البصر. وفرة الزهور الطبيعية وألوانها وتنوعها كان يعطيني إحساس أنني أتجول في حديقة خاصة. كنت أتمنى لو أمتلكت المزيد من الوقت لجمع ثمار الكستناء المتساقطة على الأرض بأعداد كبيرة.

المزارع الصغيرة تظهر لي بين الحين والآخر أحيانا المح قطيع من الماعز أو أبقار ذات رقع سوداء مثل تلك التي تظهر في إعلان الزبدة الشهيرة. حتى الآن لم استطع نسيان حادثة الكلب الضال الذي هاجمني قبل اسبوعين واليوم انتشرت الكلاب بكثرة وقضيت أوقات طويلة من مشي اليوم في حذر وترقب.

في هذا الإقليم تكثر الأنهار الصغيرة والمتوسطة والينابيع والجداول وكأن الطبيعة تركض بكل قوتها وجمالها للقاء المحيط الذي يقبع في الغرب على مسافة كيلومترات بسيطة.

الخرائط تكذب مجدداً فالطريق ليس مستقيماً بالكامل بل تتخلله تلال صغيرة وانخفاضات لوديان متعددة ولكن المشي بشكل عام نزهة مستمرة ومتعة للحواس.

غداً سأصل محطتي النهائية في سانتياغو وبدت لي المدة وكأني مشيت لأشهر عدة. كنت أفكر اليوم في تجربتي وما اضافته لي فوجدت أن الإجابة مبكرة جداً ولن أعطيها حقها من الشرح والتوثيق لكن ما أنا على يقين منه هو أن آثارها علي قد بت أستشعرها أكثر من قبل.

لا أعلم ما الذي حدث لقدمي اليوم فقد خانتني في منتصف مشوار هذا النهار. باتت كل خطوة مثل خنجر يغرز في خاصرتي. توكأت أكثر على العصي وتثاقلت خطاي وسبقني العديد من الرحالة بما فيهم سيدة في أواخر الخمسينات مرت بي ، سبقتني ، ثم توقفت وأدارت وجهها لي ونظرت مباشرة في عيني وقالت بإبتسامة عذبة :”بونو كامينو” ثم ذهبت قبل أن تسمع ردي حتى.

يبدو أني كنت حينها موضع شفقة الرحالة أجمعين فقد تجاوزني رجل عجوز لا يملك في فكه إلا سن واحد طويل في المقدمة يتحدث الأسبانية بصعوبة ولا يجيد الإنجليزية. بعد إشارات كثيرة ووصف ، فهمت منه أن هناك صيدلية قريبة في حال احتجت للذهاب لها. وكأنه أراد أن يمنحني جرعة من الحماسة فغمز لي بعينه وقال :”سانتياغو مانيانا” ، بمعنى أنني سأصل لوجهتي النهائية غداً. حينما استدار واستقام في الطريق أمامي وجدت بطاقة معلقة على رقبته من الخلف مكتوب عليها “مدمن مخدرات” ! بالنسبة لي في تلك اللحظة كان العجوز الذي يمشي أماميا ذو السن الوحيد في فمه، مدمناً على الحياة غارقاً في اللطف.

مررت بعلامة طريق على شكل عامود اسمنتي متوسط الطول منقوش عليه المتبقى من الكيلومترات فكان 30 كيلو فقط لسانتياغو. علت العامود فردة حذاء مستعملة وكأن صاحبها قد قرر الافتراق عن حذاءه ومواصلة المشي حافياً.

عادت حقول القمح من جديد ولكن على نطاق ضيق. قمصان الفلاحين القديمة تحولت لفزاعات طريفة فشلت في إخافة الغربان الكبيرة التي كانت تحط بكل أمان في وسط الحقل.

مررت بقرية Calzada وهي في الأسبانية تعني “الطريق” ويبدو لي أنها مشتقة من كلمة عربية وهي “الجادة” التي تؤدي ذات المعنى. الفلاحون منهمكون في حرث الأرض أو قطف المحاصيل وراعي غنم رث الملابس وذو لحية كثة كان يقف على جانب الطريق يراقب مرور الرحالة. يا الهي كم من الناس عبرت من أمامه وبقى هو على حاله! ماذا استفدنا نحن من مرورنا وماذا استفاد هو من ثباته!

القرية التالية كانت تدعى Calle أي “الشارع” والقرية التي قبلها “طريق” وكأن هويتهم المشتركة هي “العبور” فقط. عبور الرحالة بهم وعدم استقرارهم بأي منهما. قرى صغيرة وباهتة لم يلفتني في الأخيرة إلا مقهى أسمه Casa Tia Dolores  موجود في المكان منذ عام 1903 أي أكثر من مائة عام.

هذا المقهى له تقليد خاص به وهو أن يقوم الزبائن بترك زجاجات البيرة على السور الحجري القديم المحيط بالمقهى وأضفت طريقتهم تلك ديكوراً مميزاً للمكان وأعطته هويته الخاصة وجعلته يعلق بذاكرتي حينما مررت به وذاكره غيري من الرحالة بالتأكيد.

Santa Irene كانت القرية التي بعدهم. تميزت بكنيستها المبنية في غابة البلوط على مشارف القرية والتي ماتت فيها راهبة شابة من البرتغال أثناء أحدى المعارك. تم تسمية الكنيسة على أسمها تخليداً لذكراها. بعد مئات السنين وأثناء غزو نابليون ، قامت قواته بتخريب هذه الكنيسة ولم يتم ترميمها حتى اليوم ولكن بقيت قصة الشابة البرتغالية تبعث الحياة لصخورها وحجارتها المتهدمة من حولها.

بجوار الكنيسة هناك نافورة شهيرة يحرص الرحالة على المرور بها وتوثيق خطواتهم أمامها. النافورة أسمها Fonte da Xuventude Eternal  أو نافورة الشباب الدائم وتدور حولها أسطورة تقول أن من يغمر رأسه بداخلها ، سيبقى شاباً للأبد.

أكبر أشجار الكينا التي شاهدتها حتى الآن كانت في محيط قرية “رووا” Rúa  أسم القرية يعني “شارع” أيضاً بالمناسبة!

أشجار الغابات في هذا الإقليم صادر بحقها مرسوم ملكي بعدم قطعها لأي غرض سواء لصناعة الأخشاب أو البناء.

وصلت لبلدة Perdouzo وهي أكبر من القرى السابقة وبها خدمات متطورة ومتعددة. إعلانات الفنادق تستخدم الأسهم الصفراء ولم أعد افرق بين الدعاية وبين أسهم الكامينو الرسمية مما تسبب في كثير من اللبس لدي و ضياعي قليلاً حتى أصل لمقر المبيت لهذه الليلة. قصة أخرى أدت لضياعي المؤقت وهي أن البلدة لها أسم آخر تعرف به وهو Arca-O Pino وأنا كنت أعتقد طوال الوقت أنه أسم لقرية أخرى مخفية لا تظهر في الخريطة ولكن تظهر لي هنا في لوحات البلدة !

البلدة تشتهر بوجود محطات الأقمار الصناعية الحديثة التي تغذي ليس الشمال الأسباني فحسب بل هذا البلد بأكمله. مطار مدينة سانتياغو قريب جداً من هنا. هبوط الطائرات وإقلاعها كان حدثاً جديداً لحواسي بعد كل هذا الإنقطاع عن حياة المدن.

حصلت على غرفة مفردة في En Ruta scq مقابل ستة عشر يورو فقط. وأنا الآن على بعد 20 كيلو متراً فقط من سانتياغو.

هذا سطري الأخير في المدونة لهذا المساء ، سأخلد للنوم مبكراً فغداً مشواري الأهم على الإطلاق!

 

 

.


مسار رحلة اليوم : Arzura – O Pedrouzo (19 km)
32nd night stay: En Ruta scq .. Avenida de Santiago 23   O Pino, 15821 Pedrouzo
Photo courtesy: Google images