قيود .. Day 29

palas de rie


“fast & furious”


 

“إختبار لقدرة التحمل” .. استطيع أن أختار الجملة السابقة كملخص عن الليلة التي قضيتها في ذلك النزل. قدرتي على التكيف كانت تعمل بأقصى طاقتها وكنت أحسب الساعات والدقائق بفارغ الصبر لانقشاع الليل وحلول أول خيوط النهار حتى أنطلق خارج هذا المكان المزعج. فوضى في كل شيء وصخب الرحالة الجدد طاغي وحماستهم المفرطة وبهجتهم المبالغ فيها تعطي انطباع وكأنهم في رحلة تخصهم وحدهم.

للأمانة لم أصل بعد للنقطة التي اخرج فيها بعيداً عن منطقة الراحة الخاصة بي. هناك دوماً هالة من الخصوصية أحيط نفسي بها واستميت في الدفاع عنها. الحياة بشر من حولي ولست وحدي في هذا الكون ولابد لي أن أتقلم وأتعايش أكثر مع الذين تختلف طباعهم عني حتى اكتشف مواطن جديدة في روحي لم أعرفها من قبل. قد يكون هؤلاء هم مرآتي الحقيقية التي اتجنب النظر إليها دوماً وحان الوقت اليوم لأقف أمامها بشجاعة وثبات.

بعد Barbadelo – بلدتي السابقة – بحوالي الثمانية كيومترات تقريباً وصلت لعلامة أسمنتية أو ما يشبه عامود خرساني على الطريق يشير إلى أنني الآن في آخر 100 كيلو للوصول لسنتياغو. بعدها بخطوات وجدت علامة أخرى شبيهه للأولى وعليها 100 كيلو كذلك ولكن هذه ملونة أكثر وعليها كتابات ورسومات بكل اللغات ويزينها السهم الأصفر الشهير أيقونة الطريق. عرفت أنها هي الحقيقية والسابقة كانت مزيفة لكثرة عدد الرحالة الذين يلتقطون الصور التذكارية بجوارها لتوثيق مرورهم بهذا المنعطف الهام من الكامينو.

في مثل تلك الحظات أندم على عدم اصطحابي لأي وسيلة توثيق للذكرى ولكن أعود واذكر نفسي أنني انا التي اخترت ذلك منذ البدء وعن اقتناع تام. عشت اللحظة بكل جوارحي وهذا يكفيني حتى الآن.

استطيع القول أن اعداد الرحالة الجدد بالإضافة للقدامى قد ملأ الأرض امامي وفي بعض الأماكن اضطر مثلاً للانتظار في طابور طويل لكي اتمكن من العبور فوق حجارة مرصوفة على جدول ماء صغير .شكواهم الطفولية من التقرحات ، تذمرهم من ساعات المشي الطويلة ، ضحكهم ومزاحهم ، حديثهم جميعاً في نفس الوقت وبصوت عالي كان يصدر صوتاً موحداً أشبه بأزيز النحل. حدة التنافسية لديهم عالية جداً والتسابق على أفضلية المرور محتدم.

مفهوم الكامينو أختلف بشدة الآن وعوضاً عن ساعات التأمل الطويلة وحدي ، اصبحت محاطة بمن يتخذ من هذا الدرب حلبة للسباق والفوز على حساب الآخرين. لذا كنت أحوج ما يكون لتذكير نفسي بأن لا أسمح للطاقة تلك أن تأخذ مني قدرتي على التركيز والتأمل من جديد وأن أتفهم مشاعرهم أكثر.

اليوم شاهدت مباني خاصة يشتهر بها هذا الإقليم و اسمها Horreos وهي عبارة عن غرف طولية و صغيرة من الخشب او صوامع مقامة على أعمدة من الحجارة كانت طريقة العرب سابقاً في حفظ المحاصيل الزراعية أثناء مواسم المطر ولكي يتم إبعادها عن القوارض والحشرات. تلك الطريقة في البناء كانت معروفة في بلاد فارس و المغرب العربي ونقلها اهل الاندلس للبرتغال ومنها لاحقاً لأمريكا اللاتينية ولا تزال قائمة في شمال اسبانيا وتستخدم من قبل الفلاحين حتى يومنا هذا.

للدخول لمدينة Portomarin كان يتعين علي تسلق عشرات الدرجات من الحجر القديم المرصوف. حينما وصلت لقمتها نظرت للوراء فوجدتها منحدرة جداً وأحسست بإنجاز صغير لأني لم أكن أجرأ على صعود مثل هذا الارتفاع الحاد من قبل.

خليط من العمارة الأندلسية والرومانية يميز أبنية تلك المدينة الصغيرة. نهر “مينو” المنساب بهدوء يبدو لمن يشاهده أنه يمنح المكان حياة مضاعفة وجمال رصين. اكتشفت حقيقته لاحقاً حينما دخلت أحد المقاهي الصغيرة للاستراحة وسألت النادل عن سر تلك الدرجات المنحدرة للدخول للمدينة فقال أن جميع البيوت والآثار القديمة قد تم نقلها حجر تلو الآخر وأعيد بناءها في هذا المكان المرتفع بسبب غرق المدينة قديماً حينما فاض النهر. ليس اذاً كل ما ينساب بهدوء آمن!

بعد قرية Lameiros يوجد عامود ضخم من الكلس على شكل صليب جانب منه يحمل نقش لمريم العذراء وهي تحمل طفلها في إشارة للحياة والحب والجانب الآخر يحمل نقش للمسيح مصلوباً في إشارة للموت والظلم. الغريب أن القاعدة كانت تحوي نقوش لجماجم وعظام وكانت تعني الكثير للرحالة المسيحيين لأني وجدتهم يلتقطون الكثير من الصور ويدخلون في صلوات وتمتمات خاصة بهم.

القراءة المسبقة عن الأماكن وتاريخها وهويتها قد تكون ممارسة ضارة بعض الأوقات. وجدت نفسي أركض سريعاً للخروج من قرية Ligonde التي قرأت قبل السفر أنها مقبرة العابرون على خط الكامينو الذين يمرضون أثناء الطريق ولا يتمكنون من الوصول لسنتياغو.

عند الوصول لقرية Portos شاهدت أحد المقاهي على الطريق ولفتتني طريقة صاحب المكان الذكية في جذب إنتباه الزبائن إليه. قام بوضع مجسمات حديدية ضخمة للنمل في إشارة لنشاط الرحالة وتنقلهم الدؤوب على الطريق. فكرة طريفة وذكية لا تملك إلا أن تنتبه فعلاً للمكان وتتوقف من أجل كوب من القهوة اللذيذة والساخنة.

من هناك، توجد تحويلة لمعلم أثري وللأمانة لم أجد الوقت الكافي للعروج إليه. دوماً أحمل هاجس أن يداهمني الظلام قبل الوصول لنقطة المبيت لذا اركز على طريقي في معظم الأوقات.

وصلت لمدينة Palas de Rei أو القصر الملكي كونها مقر إقامة الملوك منذ القرن الثامن للميلاد. المدينة كبيرة نسبياً يغلب عليها الطابع العسكري لكثرة الحصون والقلاع. تم فيها قتل دون فافيلا والد القائد بيلايو الذي أنهزم على يده المسلمين في أول معارك الاسترداد.

اخترت أن أقيم على أطراف المدينة بعيداً عن الازدحام وهذه المرة سأختار فندقاً لطيفاً وادلل نفسي بحمام ساخن وطويل.

وصلت لفندق La Cabaña فوجدته “كومبليتو” أي محجوز بالكامل وتوجد به ترتيبات لحفل زفاف أيضاً. ندمت أنني لم أحجز من قبل فهذه الأيام الأخيرة عادة ما تكون مزدحمة وفرص الحصول على غرف منفردة تكون ضئيلة.

اضطررت أن أدفع عن شخصين مقابل حصولي على غرفة لي وحدي في بنسيون صغير .. هممم .. لا بأس به. ما أن استقريت حتى نزلت للبهو واستخدمت جهاز الكمبيوتر لرفع هذه التدوينة و ايضاً حتى احجز غرفة خاصة وعصرية في أفضل فنادق المدينة التالية فقد تعلمت درسي جيداً لهذا اليوم.

أغلب الأماكن تكاد تكون مغلقة ومعظم السكان في الكنائس القريبة فاليوم هو الرابع من أيار أي عيد صعود المسيح للسماء عند بعض الطوائف المسيحية. هذا ما عرفته من “بادي” وهو قسيس سابق من ايرلندا استقال من عمله في الكنيسة واختار ان يعمل هنا موظفاً بسيطاً في استقبال هذا البنسيون النائي.

سألته أكثر إن كان قد فقد إيمانه وفقاً للتعاليم المسيحية حينما استقال. فأجاب أنه شعر في وقت من الأوقات أنه شخص منافق وأن لديه ميل أكبر للتمتع بالحياة وأن رتبته في الكنيسة كانت تفرض عليه قيود شكلية أمام الآخرين تجعله مكبلاً داخلها. أحب أن يستقيل وينمي علاقته مع الله بشكل أقوى وأكثر صدقاً وإخلاصاً.

 

 

.


مسار رحلة اليوم : Barbadelo –  Palas de Rei  (nearly 36km)
30th night stay: Pensión Plaza .. Avenida Compostela 21, 27200 Palas de Rei , Spain
Photo courtesy: Google images