“Adrenaline”
لا أعلم مالذي جعلني أصحو عند الثالثة فجراً. حاولت العودة للنوم وفشلت. بالأمس وبعد أن استقريت في ألغرفة نزلت لأكتشف البلدة. الهدوء فيها ممل ويجلب النعاس وصدق الرحالة John Brierley حينما وصفها بـ “أرض القيلولة الدائمة”.
قررت أن أبدأ المشي بعدها بساعتين أي عند الخامسة. بقايا الليل لا تزال عالقة في السماء والبدر المشع يتبع خطواتي ويصاحبني في طريقي لذا لم أكن بحاجة لاستخدام مصباحي الصغير المثبت على رأسي. كنت ألمح من بعيد بعض الرحالة الذين سبقوني وكانوا يختفون أحياناً وراء التلال الصغيرة التي نمر بها. منحني وجودهم الخفي شعور أكبر بالأمان في تلك الساعة المبكرة من اليوم.
السهول الممتدة أخذت بالارتفاع شيئاً فشيئاً حتى مررت عبر جسر حجري فوق وادي رطب يبدو أنه يتحول لنهر في بدايات الشتاء ومواسم المطر. فجأة ظهر لي كلب إحدى المزارع القريبة وأخذ ينبح علي بشدة وحرقة جعلت الرعب يدب في جميع أوصالي.
في غمرة فورة الأدرينالين لدي، ألهمني الله أن لا أركض هرباً منه بل كنت اوحي لنفسي قبل أن اوحي له أنني متماسكة وهادئة. أنا أمام أعنف موقف اتعرض له حتى الآن في مشوار الكامينو هذا. وحدي في البراري وفي الصباح الباكر وأمامي هذا الوحش الضخم. في البداية جربت أن أطقطق بعصى المشي على الأرض بعنف عله يخاف ويرحل ولكنه زاد نباحاً وازددت رعباً.
بدأ يقترب أكثر من ساقي ويحاول نهشي فانطلقت مثل الريح ركضاً وهو خلفي ينبح بقوة أكثر. كان يسبقني ويحاول إيقافي بأن يعترض طريقي فلم أملك إلا استحضار الفتاة البدوية بداخلي ونسيت مبادئ الرفق بالحيوان التي احترمها وقمت بضربه بعصى المشي بكل العنف الذي لم أتخيل أنني أمتلكه يوماً. لم أفق من ضرباتي المتكررة على ظهره إلا بعد أن سمعت أن نباحه قد بات عويلاً مكبوتاً وبدأ يتراجع للخلف. طوال الطريق كنت ألتفت للخلف خشية أن يلحق بي مجدداً على غفلة مني.
لمحت مثل الاستراحة الصغيرة وظهر لي رجل يقف خلف طاولة يعرض قناني ماء وبعض الأطعمة الخفيفة من فواكه وحلويات ولديه مياه ساخنة في حال لو رغبت بكوب من القهوة أو الشاي كل ذلك مقابل تبرعات أو مبالغ زهيدة جداً. ظهوره لي في تلك اللحظة جعلني أنظر له وكأنه ملاك رحيم ليس من أجل الماء أو الأطعمة فحسب ولكنه الوجه البشري الوحيد الذي التقيت به بعد حادثة الكلب تلك.
مررت بعدة مباني أثرية وبعدها عبرت جسر حجري عتيق فوق نهر كبير أسمه Rio Pisuerga. شيد الجسر منذ أكثر من 500 عام ويتخلله ما يقارب من 11 قنطرة أعطت له شكل معماري بديع. الجسر يمثل انتقالاً جغرافي وتاريخي بين مقاطعة بورغوس وجارتها بالينسيا. بعد عبور الجسر، شاهدت حائطاً أسمنتياً منحوت عليه أسم المقاطعة الجديدة التي وصلت إليها.
بعد سبع ساعات من المشي أنتهى بتسلق تله مرتفعة نسبياً، وصلت في الثانية عشر ظهراً لبلدة “فروميستا” Fromista. أثرية جداً وكأني اتجول داخل صفحات من التاريخ القديم. يتخللها مثل سد كبير للماء. عرفت لاحقاً وأنا أدون الآن أن أسمها قناة كاستيلا وقد تم تشييدها منذ عصر التنوير في اسبانيا.
كنسية سان مارتن تعتبر جوهرة تاج هذه البلدة الصغيرة بمعمارها ذو بساطة الخطوط مع فن استخدام الزجاج للإضاءة الداخلية المبهرة. فمن يصدق أنها شيدت في هذا المكان منذ العام 1035 للميلاد!
على بعد مسافة بسيطة من الكنيسة، ترتكز نافورة Pozomingo ذات الطراز الأندلسي البديع لتقف شاهدة على مرور حضارة العرب الأوائل من هنا.
وجدت فندق صغير أسمه Hotel Doña Mayorودفعت للسيدة العجوز صاحبة المكان 60 يورو مقابل المبيت لهذه الليلة مع وجبة العشاء وإفطار الغد. أحسست أنها جدتي فقد كانت تشبهها كثيراً ولها نفس رائحة الجدات الحنونات. حينما دخلت للغرفة وجدت المقعد مغطى بمفرش لتجنب الغبار والبقع تماماً كما تفعل بقية سيدات القرى المسنات في كل أنحاء العالم.
حينما انتهيت من الاستحمام كان المطر بالخارج عاصفاً وقوياً ثم توقف فجأة بعدها بدقائق وكأن شيئاً لم يكن. تمددت على سريري النظيف لفترة ثم نزلت بعدها للحديقة الملحقة بالمكان. الهواء بارد بعد المطر والسيدة العجوز كانت تعد الحديقة لحفل شواء. عرضت عليها أن أساعدها فقبلت بسرعة. رأيتها تجلب الكثير من أكواز الذرة فهي المحصول الرسمي للبلدة ومصدر فخرهم. وعلى العشاء همست في أذني أن اللحم الذي تبلته سابقاً هو لحمل رضيع وليس خنزيراً وحرصت أن تريني أضلاعه الصغيرة وقالت هذا طبقنا الذي نشتهر به وأسمه “ليتاثو”.
.
مسار رحلة اليوم : Castrojeriz – Frómista (25km)
18th night stay: Hotel Doña Mayor .. Francesa, 31, 34440 Frómista, Spain
Photo courtesy: Google images.