شفشاون الخضراء أرض العطر والأنغام قيثار السواقي والحَـــــــــــــــمـامْ
عش البلابـــل ، معبد الشعراء، موجـــات الظلال الخضر في صيف الســـآمْ
اسطورة الألوان ، معجزة الرؤى والفــــــــن ، فجرٌ في متاهات الظـــــــلامْ
أشعار : عبد الكريم الطبال
*******
ثلاث ساعات قضيتها في سيارة صغيرة أقلتني من مدينة فاس حتى وصلت لشفشاون. مدينة صغيرة تنام على سفوح جبال الريف في شمال المملكة المغربية. ما أن توغلت أكثر في عمق المكان حتى خيل لي أني قمت بفتح علبة مجوهرات ممتلئة بأحجار كريمة ذات تدرجات لونية للأزرق تبدأ من الفيروزي الباهت وتنتهي باللازوردي العميق.
كنت احتاج لتدليل روحي بزيارة مدينة استثنائية وتدليل عدستي بصور لا تحتاج لفلاتر او تعديل. مكان يجمع كل ما أحب في كبسولة واحدة وجرعة مكثفة من السحر والفتنة فجميع حواسي هنا جاهزة للإحتفاء باللحظة.
مدينة صغيرة نابضة بالحياة ومولودة من رحم السماء تلوح لك من الأفق بين جبلين شهيرين تأخذك في غضون دقائق بعيداً عن صخب الرباط وكازابلانكا. فلا تندهش إن لمحت احد سكان مراكش او طنجة يعمل في شفشاون ، فالهرب لهذا المكان متعة حقيقية لسكان المدن الكبرى.
يتداول سكانها المحليون حكاية قديمة عن سبب تسميتها بشفشاون. فقبل مئات السنوات ، حضر عدد من الأمازيغ البربر لأسفل سفح الجبل ونظر أحدهم للأعلى حيث بدت له قمم الجبلين كقرون حيوان جبلي ضخم فصاح بمن معه “شف أشاون” فالمقطع الأول للكلمة بمعني “أنظر” و “أشاون” تعني القرون فتصبح الكلمة بشكل أدق “انظر إلى قمم الجبال” تلك القمم التي ترسم خلفية درامية لمدينة متوهجة باللون والفرح.
بعد حروب الاسترداد التي دارت بين مسلمي الأندلس والفرنجة ، تم إجلاء اليهود والمسلمين عن الأندلس في وقت محاكم التفتيش وتم طردهم لشمال المغرب.
حكم الإقليم والي يدعى علي بن راشد العلمي ، عرف عنه نضاله ضد هجمات البرتغاليين وكانت له أبنه شجاعة وذات جمال وعقل راجح حكمت البلاد لأكثر من ثلاث عقود وكان الأهالي يطلقون عليها أسم “الحرة” نسبة للصقر الحر.
حالة فريدة من التلاحم والتعايش تجلت بين اليهود والمسلمين في تلك الحقبة دفعتهم لتوحيد لون منازلهم بطلاء أزرق بديع من أجل حماية بعضهم البعض ضد التصفيات العرقية ومحاولات زرع الفرقة بينهم.
الجار المسلم كان يحمي جاره اليهودي ويعطي انطباع للغريب القادم أن هذا الجار ماهو إلا أحد أفراد اسرته حتى يزول الخطر ويحل الأمان مجدداً.
بقيت المدينة تحت الاحتلال الأسباني لفترتين منفصلتين انتهت الأخيرة في خمسينيات القرن الماضي باستقلال المغرب. اما شفشاون فبقيت لمدة طويلة ولأجيال متعاقبة محتفظة بإرث يمزج بين الحضارتين العربية والأندلسية وبقيت الدارجة الاسبانية لغة محكية لدى كثير من أبناء المدينة الزرقاء.
تعددت أسباب اختيار هذا اللون تحديداً لتمييز مدينة شفشاون فمنهم من يعتقد أنه أحد الألوان المقدسة ليهود السفارديم. ومنهم من اقتنع بقدرة هذا اللون على طرد الباعوض و الذباب. أما أنا فقد وجدت أنه أضفى سحراً خاصاً على المكان جعله بارزاً في ذاكرتي بتدرجات فاقعة زاهية تحكي عن حب الحياة والتمسك بها وتدليلها.
سألت رجلاً عجوزاً يجلس أمام دكانه الصغير عن سر اللون فقال أنها توليفة خاصة مكونة من مادتي الجير والنيلة الزرقاء يتم خلطها بدرجات معينة للحصول على ذلك الرونق الخاص وكل سنة يتم تجديد طلاء المنازل للمحافظة على هذه الهوية الفريدة.
اليوم ، باتت هذه المدينة الحميمة حلم لمحبي السفر والتصوير والتوهان بين الأزقة الضيقة المرصوفة بالحجر والخالية من السيارات بكل تفردها واستحقاقها للقب أجمل مدن العالم للعام 2016.
المحال الصغيرة تنتشر على جانبي الممرات وتتدكس بضاعتها وتمتد من الأرض حتى السقف في منظر بديع يعطي للمدينة روحها الخاصة وطابعها المميز.
منتوجات السجاد المحاك محلياً و المشغولات الجلدية والحقائب بأنواعها وأحجامها ولونها المميز الطبيعي يلفت النظر من بعيد. وبينهم تندس حوانيت صغيرة لبيع المجوهرات والفضيات والأوشحة والملابس التقليدية المحاكة من الصوف والثريات النحاسية والفخار المزخرف. ولا ينسى السياح أن يأخذوا معهم منتجات سيدات القرية من تين مجفف وجبن ماعز وزعتر بري وريحان وخزامى.
القصبة التاريخية تتوسط طرف المكان الشرقي وتحولت اليوم لدار ثقافية ومتحف ويقام بها سنوياً مهرجاناً دولياً لسينما الأطفال. قريباً منها يقع الجامع الكبير وباقي المحال التي كانت قديماً خاصةً بالكتاب والمثقفين الذين يعملون في نسخ الكتب النادرة ومن ثم نشرها.
المدينة العتيقة في الوسط تعتبر القلب النابض بمطاعمها الشعبية وساحة وطأ الحمام الشهيرة حيث كانت المحال المحيطة بالساحة قديماً مخازن للحبوب والمحاصيل فكانت الحمائم “تطأ” الأرض وتلتقط الحبوب. تبدو شفشاون وكأنها تستريح في تلك البقعة المستطيلة لتلتقط أنفاسها.
هنا لا يجب أن تركض وتلهث كي ترى بوضوح فهي مكان حميم تصطف على جنباته أشجار الزيتون وشجرة بلوط كبيرة تختلط رائحة اوراقها الخضراء بأطباق طاجن لحم البرقوق أو كسكسي الخضروات. شاي مغربي أصيل يكون دوماًعنواناً لنهاية وجبة مميزة بصحبة أنغام مطرب الحي العجوز الذي يكتفي بأن تجلب له فنجان قهوة كبير لكي يدندن بنشاز على كمنجة صغيرة طوعها غصباً لتصدر ألحانا أقرب ما تكون للربابة.
يدندن بما يعرف بالطقطوقة الجبلية وهي من الموروث الموسيقي للمدينة عبارة عن أناشيد و أهازيج محلية كانت ترددها فتيات و نساء القرى بمناسبة المواسم الزراعية للترفيه عنهن أثناء القيام بالمهام و الأعباء الفلاحية اليومية.
مقاهي الأرصفة تمنح الزائر فرصة ارتشاف عصير البرتقال الطازج والنظر للمارة والتعرف أكثر على إيقاع المدينة الحقيقي. النادل في شفشاون لا يلح في طلب زيادة مال بل يكتفي بما تمنحه له مع ابتسامة رضى واسعة تشجعك على تكرار الزيارة. الأكل بشكل عام لذيذ جداً ورخيص الثمن.
دور الضيافة والرياض التقليدية تنتشر بكثرة في كل الزوايا معلنة جاهزيتها لاستقبال الزوار محبي المدينة بعمارتها الأندلسية الخاصة من أبواب مزخرفة ونوافذ مقنطرة ونباتات الزينة في أصص صغيرة ملونة و معلقة على الواجهات ومفروشات محلية الصنع تحمل هوية المكان.
تلك الرياض يقوم سكانها بمشاركة السواح غرفة او غرفتين على الأكثر ويمنحون القادم إليهم شعوراً حميماً وكأنهم عائلة يقومون بالطهي ويمنحون النزيل طعاماً و قصصاً مشوقة مقابل دراهم معدودة في اليلة الواحدة.
المنازل متلاحمة متلاصقة لا تفرق بين حدودها من بدايتها أو منتهاها فكل البيوت كأنها منزل واحد كبير يعكس ذلك تقارباً مذهلاً بين الجيران حتى تخالهم عشيرة واحدة.
لا توجد لديهم أسوار عالية مثل التي عندنا ولا تفصلهم الشوارع الواسعة فهم يعرفون بعضهم بالاسم حتى وأن سكنوا اطراف المدينة أو ابتلعتهم الغربة في بلاد المهجر.
الازقة الصغيرة نظيفة تماماً وحجارتها لامعة دوماً ومصقولة والمدينة بالكامل رغم صغر مساحتها إلا أنها عصرية جداً في خدماتها فهي توفر الاتصالات السريعة و الانترنت والكهرباء والماء العذب بالإضافة لبنوك متطورة تقدم خدماتها الفورية للسواح والمواطنين على السواء.
أقف هنا على أعلى التلة المطلة على المدينة وخلفي فندق “أطلس شاون” محل إقامتي ويحيط كل هذا الجمال الطبيعي مزارع شاسعة من الماريجوانا او الحشيش المخدر والمتداول بشكل شبه نظامي ومقنن. معظم سواح المدينة من المانيا وهولندا يأتون خصيصاً ليس للتمتع فقط بجمال المكان بل الحصول على المخدر من “جنة الحشيش الذهبي” بحسب وصفهم.
لم يستطع دخان المخدر أن يسرق من المدينة براءة أطفالها وتمازج أرواحهم الفطري مع المكان ولمعة أعينهم وشقاوتهم اللذيذة. أطفال شفشاون يمتلكون وقار الكبار وكرم الضيافة والترحيب بالغريب مثل الطفلة ذات البنطال الأخضر للأسف نسيت أسمها “اعتقد أن اسمها سعاد” ، لمحتني من بعيد وركضت نحوي تبتسم لعدسة الكاميرا رغم أن الغالبية العظمى من السكان لا تستسيغ فكرة التصوير. تلك الصغيرة وعدتها أن أعود لها يوماً ما بدمية جميلة وأن أطبع صورتها وأضعها لها في إطار لطيف مثلها.
لفتتني التلميذة الصغيرة وهي في طريق عودتها من المدرسة تحمل حقيبة عليها صورة إحدى أميرات ديزني. إستقلاليتها في تلك السن المبكرة واعتمادها على ذاتها وحماستها للعلم و التباين بين حقيبتها الحديثة وخلفها محل حقائب الجلد التقليدية كل ذلك كان يستحق أن أسجله هنا بصورة تشرح جميع ما سبق وأكثر.
*******
خجلت وغاصت في البحر الأزرق وتركت وراءها يدها الصغيرة عربون صورة استثنائية.
*******
شباب وفتيات شفشاون عنوان صريح لحب الحياة والانفتاح على العالم. روح جديدة للمدينة العتيقة ، أفكارهم مختلفة وغير تقليدية وإجادتهم لعدة لغات أمر مذهل. على خلاف كبار السن ، يرحبون بالتصوير جداً بل و يتموضعون بمرح أمام عدستي ويحرصون على رؤية الصورة من شاشة العرض.
إقبالهم على الحياة أمر ملهم بحق ، عشقهم لموسيقى برونو مارس ، سخريتهم اللاذعة من بعضهم البعض ، ضحكاتهم ، هروب الفتيات من أمامي وهن يضحكن بمجرد أن ارفع عدستي وإلتفاتة إحداهن نحوي بمكر طريف ، بائع البرتقال الذي يشجع ريال مدريد ، صانع أساور الجلد الذي يغازل السائحات الشقراوات ، الفتى المهذب “منير” الذي عرض علي أن يكون مرشدي السياحي في المدينة كاشفاً اسرارها وزواياها لي ومانحاً إياي بطاقات دخول لمناطق أعمق وقبولاً أكبر لدى السكان ، حرصهم على الدراسة والتعليم ، جميع ما سبق صور جميلة سأحملها دوماً عن شباب مختلف ، واعي وناضج وممتلئ بالطيبة.
“الشريفة” ،، لقب يطلق على السيدات هناك .. وجدته الأصدق والأقرب لما يجب أن أصف به من إلتقيتهن من سيدات شفشاون الفضليات. رغم الظروف الصعبة إلا أنهم يظهرن بالجلابة التقليدية بأبهى حلة وأناقة هندام وألوان تبهج الروح.
السيدة هناك يد فاعلة تصنع السجاد وتحيك الملابس وتطبخ وتربي أجيال جديدة واعدة. رأيتهن في حالاتهن الانسانية المختلفة فتلك تحنو على جارتها العجوز ، والأخرى تستقبل المسافرة بعد غياب طويل في الغربة تبثها شوقها والحكايات المتراكمة ، وتلك تتأمل وحدها بجوار قطتها الصامتة مثلها ، و العاملات بجد واجتهاد من أجل لقمة عيش كريمة ، وتلك المرحة التي باعتني ملابس تقليدية وحينما صورتها أشارت بعلامات النصر دليل رضاءها عن المكسب. حكايات لن تنتهي وذكريات لا تنسى عن شريفات المدينة.
شفشاون كغيرها من مدن المغرب تغلب عليها روح التصوف وكثرة زوايا الذكر والمديح الدينية ، كنت محظوظة بإلتقاط هذه الصورة على عجل لأحد الدراويش .
الزوايا الصوفية ذاكرة المكان لكل من يبحث عن الدهشة والأسرار اماكن شبه مهجورة نسوها مريديها وتدحرجوا لمدن أكبر ومكسب أوفر. رغم أنها تجتذب السياح كل عام في شهر تموز لحضور المهرجان العالمي للموسيقى الصوفية والمديح لأشهر المطربين مثل عبد الواحد التطواني وبرفقة فرق الحضرة الشفشاونية والطائفة العيساوية.
*******
أكلته الأعوام واستهلكته واصبح في زمن جديد لا يشبهه يمشي خلف ظله في غباوة مدروسة.
*******
من أجمل الصور التي التقطتها في شفشاون كانت لهذا الرجل البدوي القادم من الصحراء ، وقت إلتقاط الصورة كان تحديداً يوم 16 آذار 2016 أي بعد ثلاثة أيام فقط من مسيرة مليونية لأبناء المغرب قاموا بها اعتراضاً على تصريحات لأمين عام الأمم المتحدة الذي لمح فيها إلى أن المغرب تحتل الصحراء الكبرى فحمل الجميع لافتات بعبارة موحدة وهي “المغرب في صحراءه والصحراء في مغربها”
البدوي قادم مثلي لحظتها إلى شفشاون لفتتني طريقة هندامه المميزة واستأذنته بالتقاط الصورة وتركته بعدها ينفث دخان سيجارته بهدوء جالساً على عتبات احدى الزوايا الصوفية بكاريزما سينمائية عالية تاركاً إبتسامته تعيش في الصورة.
منطقة على أطراف المدينة أسمها “منبع رأس الماء” عين جارية تعتبر مصدر الماء الصالح للشرب في شفشاون تطل على القلعة وتحتضن محمية “تلسمطان” الطبيعية بأشجار الشوح الذي لا ينبت الا في هذه المنطقة بجانب اشجار البلوط الضخمة والأرز.
بجوارها يقع حي الصبانين حيث تأتي سيدات البلدة من كل مكان يجتمعن بكل شفافية ويتبادلن الحكايات وغسل الملابس بالصابون البلدي عطر الرائحة.
*******
سائحة ألمانية تلتقط لنفسها “سيلفي” للذكري وهي ترتدي لباس شفشاون التقليدي من كرزية و شاشية و المنديل المخطط بألوان نابعة من التراث الأندلسي القديم.
*******
الحمام المغربي أو ما يعرف بإسم “البلدي” وعامل يقف عند الباب المقنطر إستعداداً للصورة وللزوار
*******
حتى سيارات الأجرة تحمل ذات اللون المميز لشفشاون
*******
عند الرحيل ، حاولت أن أُدخل المدينة كلها إلى صدري في تنهيدة واحدة فلا اريد أن اغادرها. لم اكن مستعدة بعد للعودة لحياة بألوان باهتة.
*******
المعادلة بسيطة للحصول على اللون الأزرق على الجدران .. مجرد سلم خشب قديم ، جردل طلاء وفرشة ..
ولكن السؤال الأصعب هو .. هل بهذه الأدوات وحدها نحصل على سحر وجمال شفشاون !!
.
اخذتيني معك لهذه المدينه رغم اني لم ازرها يوماً ولكن بعدستك وكتابتك زرتها…….