Rue Cremieux / زاوية مجهولة من باريس
من سبق له أن زار جادة البورتوبيلو في ضاحية نوتينق هيل اللندنية او جزيرة بورانو في فينيسيا الايطالية، حتماً سيستحضر ذات الروح بمجرد أن تطأ قدماه هذا المكان من باريس.
فشارع كريميو Rue Cremieux ماهو إلا كبسولة صغيرة ملونة بالباستيل تأخذك بلمح البصر خارج الإيطار المعتاد لمدينة صاخبة وطرقات مكتضة بالبشر والحجر. ملاذي الصغير ومهربي في كل زيارة للعاصمة الفرنسية.
قطعة من حياة الريف الوديعة الساكنة في قلب مدينة عتيقة ، بناياتها خراسنية ثقيلة وتفاصيل شرفاتها حديدية معقدة.
المدهش أن طوله حوالي ١٤٤ متر فقط ومثل قطعة الشطيرة اللذيذة ، يغلفه شارع دو ليون شرقاً و دو بيرسي غرباً وهو في المنتصف بينهما بكل طزاجته وسحره ولذاذته.
رو كريميو مخصص للمشاه فقط مما يجعل من التنقل فيه تجربة مريحة وفرص استثنائة للمصورين الباحثين عن خبايا المدن وزواياها المجهولة لأماكن لا توجد الا في كتب الحكايات والبطاقات البريدية.
كمصورة ، إن رفعت عدستي للأعلى، سأحتار بين الوان واجهات المباني ذات الطابقين وإن اقتربت بكاميرتي للأرض ، فسأدهش بنمط الشارع المرصوف بمربعات كبيرة من الحجارة والأكيد أن شريكي في مشواري لن ينتابه الملل من كثرة التقاطاتي للمكان.
وكلما طال بي الوقت في هذه البقعة الساحرة، تبدأ مخيلتي برسم صور عن قاطني تلك المنازل الملونة ،
فهذه متقاعدة عجوز تسكن المنزل رقم تسعه تحيط نفسها بأوعية فخارية لمزروعاتها من ازهار واعشاب وتقرأ صحيفتها بطريقة حديثة عبر الايباد يجلس مقابلاً لها صديقها الذكي يحل الكلمات المتقاطعة بقلمة الاخضر الفسفوري ويفصل بينهما طاولة خشبية وكوبان من القهوة.
اما الصغيران اللذان يلعبان بالكرة فسأختار أن اطلق عليهما اسمان فرنسيان عريقان مثل جان-بيير و فرانسوا. ابتسمت لنفسي لأنني بدوت مستمتعة بلعبتي الصغيرة تلك.
سنة 1865 شهدت المولد الحقيقي لهذا الشارع الذي كان يُعرف بجادة ميلود وبعد أكثر من ثلاثين عاماً تم تغييره للأسم الحالي تكريماً لأدولف كريميو الناشط في حقوق الجالية اليهودية في فرنسا.
المنزل رقم 8، لايزال يحمل علامة تشير لمستوى منسوب المياة التي غمرت المكان حتى وصلت لعلو ستة أقدام خلال الطوفان العظيم الذي اجتاح المدينة في العام 1910.
إعادة بيع هذه البيوت، مسألة شبه مستحيلة في يومنا هذا ولكن قد يصل إيجارها الشهري للعشرة الاف يورو أو يزيد.
وتجدر الاشارة إلى وجود نُزُلْ صغير بين تلك البيوت يحمل الرقم خمسة عشر و أسمه اوتيل بارتيكيولير يمكنك فيه من استئجار غرفة بسيطة بلا وسائل راحة حديثة وبحدود الاربعون يورو في الليلة ولك حينها أن تتحمل ضيق المساحة وازعاج الزوار الذي لا ينقطع عن هذا الشارع طوال الاربع وعشرون ساعة.
وعند إقتراب وقت رحيلي عن المكان، شاهدت أفضل ما يمكن لمصور الشارع أن يحصل عليه. فتاة تلبس الأبيض وتحمل البالونات الملونة وكأنها تقول لي “أنتِ خارج الزمان والمكان ، استمتعي وافرحي باللحظة”.
بعدها بلحظات، انتبهت لوجود القط الشهير بإسم “جينجر” الذي تم رسمه على واجهة احدى البنايات، فقد وجدته يجلس بهدوء تحت عتبات المنزل رقم ثمانية وعشرون. من النادر رؤية هذا القط “المقدس” لديهم على الطبيعة فله مهابة كبيرة تمنع أي احد من ازعاجه او مجرد لمسه. وكعادتي، لم اقاوم سرقة إلتقاطات الشارع الممنوعة.
ختام رحلتي كان احتفالياً بإمتياز، حينما قابلت فريقاً من الموسيقيين الجائلين الذين قاموا بتصوير عمل غنائي في ذات الشارع قبل سنوات من الآن. اخرج احدهم من جيبه ملصق يضم صورة لكل الفنانين المشاركين اثناء اداء اغنيتهم وكم كان سعيداً بأن التقطها بعدستي وخلفيتها ذات الشارع. كريميو ذو البيوت الملونة كألواح لذيذة من السكاكر.
.