“a hell of a ride”
للوصول لسانتياغو وجهتي النهائية ، يتحتم على عبور جبل ليون وتسلق قمته البالغ ارتفاعها نحو 1500 متر عن سطح البحر. مسافة المشي تعد الأطول بالنسبة لي حتى هذه اللحظة لذا سأطلق على يومي هذا لقب ” يوم التحديات الكبرى”
اليوم مشيت عبر المنطقة التي تم فيها اختطاف رحالة شابة تدعى “دينيس” وتم العثور على جثتها لاحقاً واعتقال المجرم بعدها بأسبوع. للأمانة فقد قرأت عن قصتها وقت حدوثها العام الماضي ولم أجعلها هاجس يمنعني عن هذا المشوار فلا تدري نفس بأي أرض تموت. وللأمانة أكثر فقد لاحت لي ذكراها اليوم كطيف بريء قتل بلا ذنب.
فكرت فيها مطولاً وتخيلت حجم الهلع الذي أصابها قبل وفاتها. هل كانت تضع سماعات ولم تفطن لمن يمشي خلفها أو يباغتها من بين الأحراش! هل تعذبت! هل ناشدت قاتلها أن يتركها لحال سبيلها لتكمل المشوار فهي قد شارفت على نهاية الرحلة! هل قاومت! هل ماتت بسرعة أم ببطء!
خط الكامينو هذا يعتبر شريان حياة لسكان القرى والبلدات الصغيرة وتوفير الحماية والأمان للرحالة عابري الطريق تعتبر من أولويات السكان أنفسهم قبل حتى أن تتدخل الشرطة.
سأكون على موعد مع عدد هائل من القرى الصغيرة وشبه المهجورة. إحدى تلك القرى يبلغ عدد سكانها تسعة أفراد فقط. أعتقد أنهم عائلة واحدة. يبدو أن الحالة الاقتصادية قد دفعت بالشباب للهجرة من تلك القرى للمدن الرئيسية وبقيت الأماكن والبيوت خلفهم عرضه للإهمال والنسيان.
من القرى الشهيرة على هذا الدرب كانت El Ganso وذلك بسبب وجود مقهى ذائع الصيت فيها أسمه Cowboy Bar كتب عنه الرحاله وتم تصويره في العديد من الأفلام بسبب ديكوراته الذكية التي توحي للداخل إليه بلكل ما يخص اجواء الغرب الأمريكي بدء من موسيقى الكانتري وقبعات رعاة البقر و انتهاء بالعديد من الملصقات والاكسسوارات التي تنقلك فوراً لكولورادو أو تكساس الآمريكيتين. انبهر دوماً بذكاء اصحاب تلك القرى وطرق جذبهم للعملاء وصنع ذاكرة أكبر للمكان وبثهم للحياة بأبسط الأشكال. كل من مر تلك القرية يتذكر هذا المقهى ويحتفظ بصورة عنه على الأقل.
التضاريس باتت صخرية أكثر مع اقترابي لأسفل الجبل في طريقي لتسلقه. اصطفت الاشجار على جانبي الطريق الضيق وباتت تشكل غابه صغيرة.
عن اليمين كانت هناك أسلاك شائكة قام الرحالة بتغطيها بأوراق تحمل رسائل وأمنيات وصلوات. صوت جريان الينابيع الصغيرة وكثافة الأحراش لم يمنعاني من اخذ الحذر الشديد والالتفات للخلف وتمشيط المكان على مد نظري فهاجس حادثة دينيس بات يخيم على الأجواء أكثر كلما توغلت وحدي في المكان.
لم أصدق أن التقيت بجيوفاني الايطالي العجوز. كان يجلس للاستراحة على جانب الطريق. خطوط تجاعيد وجهه وشعره المشتعل شيباً منحاه طيبة وبراءة وبرغم كل ذلك بقيت حذرة حتى منه.
يبدو أن مشيي السريع قد ألهمه ليواصل المسير. لم يكن يعلم أن سرعتي تلك لأنني كنت خائفة ببساطة. تحدث معي بإنجليزية ركيكة ولكن مفهومة. وحاول أن يملأ وقت مشينا بتعليمي بعض الكلمات الايطالية.
الخطة كانت أن ابات ليلتي أعلى القمة في قرية أسمها Foncebadon وشاركني الفكرة صديق رحلتي العجوز. حينما وصلنا لبيت الضيافة الوحيد في المكان وجدنا المالك يعزف على غيتاره والمكان يوحي بالدفء. صدمنا حينما قال أن جميع الأماكن محجوزة وأن أقرب مبيت لنا هو أسفل الجبل. أسفل الجبل !! المسافة تعادل ما قطعناها لليوم وأكثر والغيوم بدأت تتجمع منذره ببقية يوم ممطر.
قلت له أني لا أمانع من المبيت في الصالة حتى الصباح فقط ولكن اعتذر بشدة ولم يكن أمامنا إلا الرحيل. بمجرد خروجنا بدأ هتان المطر فسمعت جيوفاني يصيح بالايطالية قائلاً: ” Porca Miseria” عرفت فوراً أنها شتيمة. بحثت عن الكلمة الآن وأنا اكتب هذه التدوينة فوجدت أن معناها هو “الخنازير البائسة” ! نعم بالضبط .. كان يقصدني معه بالوصف.
انقشعت الغيوم الداكنة وعاد الطقس صحواً مع وجود الغيمات القطنية البديعة. قررت أن أستمتع بباقي المشوار وساعدني أن جيوفاني كان شخصاً فكاهياً ويتندر على الموقف باستمرار وروحه جميلة. سألته عن سبب مشيه فسخر مني وقال أنه سئم هذا السؤال الذي طرح عليه طوال الأسابيع الماضية بشكل يومي. لذا وجدت من الأنسب أن أستبدله بسؤاله عن سر نكهة السباغيتي بولونيز.
بمجرد إقترابنا من Cruz de Ferro أو الصليب الحديدي الشهير أعلى قمة الجبل حتى وجدته يخرج من حقيبته مجموعة حجارة ملونة وصغيرة ودخل مع نفسه في صلوات وتمتمات طويلة فكل حجر بالنسبة له يحمل قصة.
هذا المكان على الكامينو يعتبره الرحالة نقطة للتخلص من عذابات خاصة بهم ، ذكريات حزينة ، عادات سيئة ، ذنوب ، كل ذلك يرمزون له بحجر يمثل أحد أو جميع ما سبق. يضعون الحجر في المكان ويتخففون نفسياً من عذاباتهم. يتخففون وزناً أيضاً لأن تلك الحجارة يحملونها من بلادهم وتكون في حقائب الظهر طوال الطريق إلى هنا. ابتعدت قليلاً وجلست على طرف الطريق اتأمل المشهد بالكامل وأفكر في ما الذي كنت سأرمز له بحجر وأضعه هنا خلفي.
بدأنا بعدها مرحلة الهبوط من الجبل وكانت متعبة ومنهكة جداً لأن الطريق ممتلئ بالحجارة والممرات الضيقة والزلقة.
عند دخولي لقرية Manjarin سمعت نباح كلب وخفت أن تتكرر قصتي المأساوية تلك. سمعت رجل ينادي “بيريو ، بيريو” سكت الكلب ورفعت رأسي فوجدت رجل عجوز بلحية كثيفة بيضاء حياني وطلب مني الصعود لرؤية مكانه والاستراحة قليلاً. المكان عبارة عن بيت إيواء بالإمكان المبيت فيه او فقط الاستراحة و تناول وجبات خفيفة و بعض المشروبات وشراء تذكارات تخص الكامينو ايضاً.
لهذا المكان طابعه المميز من ديكورات متعددة التفاصيل والألوان وأسهم خشبية ملونة تشير لعد مناطق واتجاهات وأعلام عدة دول. الرجل يبدو أنه نجار ايضاً فقد كان ينشر جذع صغير. عرفت منه أن اسمه توماس وهو من سلالة فرسان المعبد القدماء “Templar Knights of Manjarin” و كان يلبس زي ابيض بصليب أحمر من القرون الوسطى فهمت منه أيضاً أنه ومساعديه قد نذروا أنفسهم لخدمة الدين وحراسة ونجدة الرحالة على هذا الطريق. المكان ممتلىء بالقطط وكلاب الحراسة فكنت في حالة إستنفار تامة.
وصلت لقرية El Acebo هذه القرية تعد أول جزء يفقده المسلمون في الأندلس على يد القائد الاسباني “بيلايو”. ويتناقل سكان تلك البلدة أسطورة تشير إلى أن سيف ذلك القائد قد تم دفنه فيها.
الطبيعة ازدادت جمالاً وإخضراراً كلما نزلنا لأسفل الجبل وكثرت اليانبيع والجداول الصغيرة من حولنا وبات المشي أكثر متعة. وصلت لقرية Molinaseca تخلب الألباب لفرط جمال طبيعتها وصوت نهرها الجاري أسفل ذلك الجسر الحجري. أعطتني إحساس المشي في قرى حكايات الأطفال. ممتلئة بالمقاهي الصغيرة والحوانيت التي تحمل طابع القرى الجميل. تناولت فيها قهوة لذيذة بالحليب او ما يطلقون عليه هنا في اسبانيا “كافيه كو ليتشيه”
لو مررت هنا من جديد حتماً سأختار المبيت فيها والتمتع بجمالها. ولكن أخترت ان تكون النقطة النهائية اليوم في مدينة أكبر.
مع حلول المساء وبعد ساعات مشي هي الأطول منذ إنطلاقتي في الكامينو ، شارفت على الوصول لمدينة أسمها بونفيرادا Ponferrada وستكون محطة المبيت لهذه الليلة. المدينة رائعة ويخترقها طولياً نهر اسمه “سيل”. ممتلئة بالقلاع القديمة والبنايات العتيقة. تبدو لي مدينة تحمل كنوز سياحية لكثرة متاحفها ولكن لشدة تعبي وإنهاكي هذا اليوم لم أكن أتطلع إلا لغرفة مفردة حديثة ونظيفة. في طريقي للفندق ودعت جيوفاني العجوز اللطيف لأنه اختار أن يذهب للمبيت في احد دور الضيافة الجماعية ولا أعلم إن كنت سأتمكن من رؤيته على الطريق في مكان ما.
بعد كل هذا التعب لا يوجد أجمل من السكن في فندق على طراز القرون الوسطى، نظيف، عصري، متعدد الخدمات، وشامل لوجبة الأفطار ، وبـ 64 يورو فقط ، وكأس عصير برتقال طازج أثناء كتابتي لهذه التدوينة الآن!
.
مسار رحلة اليوم : Astorga – Ponferrada (35km)
25th night stay: Temple Ponferrada .. Avenida Portugal, 2, 24400 Ponferrada, Spain
Photo courtesy: Google images