خيمينا اللطيفة .. Day 15


“family time”


 

نظرت من نافذة الغرفة فوجدت السماء داكنة وأضواء الشوارع مضاءة رغم تجاوز الساعة للسادسة إلا ربع صباحاً. نزلت لقاعة الإفطار فكانت مغلقة حتى السابعة. قررت أن أستأنف مشوار الكامينو وتناول الافطار في أي مقهى يصادفني لاحقاً. لا أريد تضييع الوقت فالمدينة كبيرة والخروج منها سيستغرق مني وقتاً طويلاً.

علامات الطريق الخاصة بالكامينو والأسهم الصفراء لا تترك لي مجالاً للضياع حتى وأن رغبت أنا بذلك. أجد نفسي دوماً منجذبة لفكرة التيه في المدن الغريبة وقضاء لحظات من فقدان البوصلة. تدهشني دقة من وضعها وأمانته في النقل وتمرير المعلومة للآخرين للفائدة العامة وكأنه دون أن يدري يجسد الحديث “وعلم نافع ينتفع به”

بورغوس الجميلة أحبت أن تودعني بأن وضعت في دربي معظم الأماكن التي سبق أن زرتها بالأمس. شعرت بحميمية مع المكان وغصة أني لم أمدد إقامتي بها يوماً إضافياً. المزارات كانت تتشبث بي للبقاء أكثر وأنا أتملص منها بصعوبة.

في طريقي قابلت مجموعة من الشباب والفتيات يغنون ويمرحون يبدو أنهم كانوا يحتفلون طوال الليل بفوز نادي رياضي وهم الآن في طريقهم للنوم. يخيل لي أحياناً أن الشعب الأسباني يستيقظ في الثامنة مساء وينام عند السادسة صباحاً خاصة في المدن الرئيسية. بلد عاشق للحياة والسهر والاحتفالات المستمرة. جميعهم بصوت واحد قالوا لي “بوينو كامينووو” ودخلوا بعدها في موجة ضحك جماعية ابتسمت لهم وكل منا ذهب في الإتجاة المعاكس.

هاهي القلعة قد أصبحت خلفي وها أنا اسلك درباً إسفلتيا لخارج المدينة يأخذني لما يشبه الغابات الصغيرة. أشجار عالية وخضراء على يميني ويساري. البرد كاد أن يجمد أنفي لولا أن تذكرت وشاحي الصوفي وأحكمت تدفئة جسدي بالكامل.

عند نهاية الكامينو سأكتب بالتفصيل عن كل المعدات والتجهيزات التي معي من حقيبة ظهر وغيره. ولن أنسى أن أكتب أنني ندمت على عدم أخذي لنظارات خاصة للأيام التي تشتد بها الرياح مثل اليوم. لمحت سيدة يابانية  تمشي ببطء أمامي غطت عينيها بتلك النظارة الخاصة بالسباحة. وجدتها فكرة عظيمة وبسيطة.

قطعت ما يقارب الواحد وعشرون كيلومتر عبر تضاريس مسطحة نسبياً تخللها تسلقي لتلين مرتفعين. توقفت لاحقاً في بلدة صغيرة أعدت فيها ملء قنينة الماء وابتعت لنفسي ثمرتي موز مع شطيرة صغيرة من الجبنة البيضاء وكوب عصير برتقال.

عند الساعة الحادية عشر والنصف قبل الظهر، كنت قد وصلت لبلدة “هورنيلوس ديل كامينو” Hornillos del Camino الطقس لا يزال بارداً ودرجة الحرارة اليوم 8°. قادتني خطواتي لمنزل ضيافة صغير أسمه Casa Rural del Abuelo يديره عجوز وأبنته ومن حسن حظي أنه أُفتتح من سنة تقريباً لذا يعد حديثاً وعصرياً مقارنة بمقرات المبيت الموجودة منذ سنوات طويلة على طريق الكامينو هذا.

المكان عبارة عن فيلا صغيرة جداً من طابقين. تمكنت من الحصول على غرفة مستقلة بحمامها الخاص مع وجبة العشاء والافطار مقابل ثمان يوروات فقط. وعلى إستحياء قال لي صاحب المنزل أنه في حال إزدحام المكان بالزوار قد يجلب معي نزلاء آخرون في الغرفة. قلت له أن لا مانع لدي وتقبلت الأمر فطبيعة الكامينو قد لا تمنحك رفاهية الغرف الخاصة على الدوام. كل ما كان يهمني حينها الدفء ونظافة المكان وتوفر أطعمة مناسبة لي.

خرجت للتجول حول المكان واستكشافه. الطابع الحجري للمنازل أكثر ما يميز البلدات الصغيرة في أسبانيا. من الخارج تظن أنها قديمة ولكن بمجرد دخولك تجد كافة وسائل الحياة العصرية والكماليات من أجهزة كمبيوتر وتلفزيون وغسالات ملابس وغيرها. حتى المطابخ معدة ومجهزة بأحدث التفاصيل. اكتشفت أمر طريف خلال إقامتي وهو أن هناك فرق لديهم بين الانترنت والواي فاي. الانترنت يقصدون به أجهزة الكمبيوتر أما الواي فاي فهو اتصالك الفعلي بالشبكة العنكبوتية. لذا حرصت أن أستفسر من صديقي العجوز عن مدى توفر خدمة الواي فاي في المكان.

لمحت كومات من الحجر تؤدي إلى غرف صغيرة قريبة من المكان ولها أبواب قصيرة مثل التي شاهدتها سابقاً في لوس أركوس قبل خمسة أيام وكنت أطلق عليها تندراً “بيت أقزام سنووايت” حاولت الاقتراب منها واكتشافها ولكن بابها الخشبي العتيق مغلق بحديد صدئ.

حينما عدت للمنزل وجدت أن هناك زوجين من أمريكا يتناولون طعامهم على الطاولة القريبة من الاستقبال. توقعت في البدء أنهم شركائي الجدد في الغرفة ولكن قال لي العجوز “بيدرو” أنهم جيراني في الغرفة المجاورة وأننا النزلاء الوحيدون لهذا اليوم. لا أنكر شعوري بالراحة لتأكدي من حصولي على غرفتي الخاصة بحمامها لي وحدي.

تقدمت مني “خيمينا” ابنة صاحب المنزل وشريكته في العمل، عرضت على بلطف غسل ملابسي مجاناً شكرتها من أعماقي وطلبت منها أن تريني مكان الغسيل وأنا سأتكفل بالأمر. عرضت عليها بالمقابل أن أساعدها في الطهي لوجبة العشاء.

بعد غسل ملابسي التي كانت قد اتسخت من المشي في الطين، أخذتها لتجف على منشر الغسيل في الخارج. شعرت وكأني ابنة الحي وتآلفت مع المكان بسرعة.

سألت بيدرو عن منازل الاقزام تلك وإذ ما كانت قديماً تستخدم كغرف لحصاد القمح، ضحك مطولاً وقال لي: “تعالي معي سأريكِ بيوت الأقزام من الداخل” التفت للزوجين الأمريكيين وعرض عليهما مصاحبتنا حينما لمحهما يصغيان لحديثنا بفضول.

البيوت الحجرية الصغيرة تلك أسمها bodegas وهي عبارة عن أقبية عميقة أسفل الأرض تبين لي لاحقاً أنها خاصة بتخمير النبيذ تعود ملكيتها لبيدرو وأبنته. قام بفتح الباب الخشبي بمفتاح قديم عليه رسومات ونقوش جميلة. وذكر لنا أنهم في شهر أيلول من كل عام يقومون بقطف العنب من مزرعتهم ويسحقونه بأرجلهم حتى يستخرجون عصارته. تذكرت قصة الايطاليات الحسناوات الآتي يتم اختيار عذراء جميلة من بينهم لتسحق العنب بأرجلها وسط أجواء كرنفالية مبهجة. حينما ذكرت القصة لبيدرو، ضحكوا جميعاً وقالوا أنها مشاهد جميلة تظهر فقط في السينما وأن الواقع مغاير تماماً.

الهواء بارد أسفل القبو ورائحة التربة والرطوبة مع شيء من العفن الفطري المصاحب لمثل هذه الأماكن المغلقة كان شعوراً خانقاً بالنسبة لي ولكن تحملت قليلاً لأن بيدرو كان يتحدث بفخر عن عمله وكيف أنه قد ورثه من أسلافه منذ عام 1900 ومثل غالبية كبار السن قام باستعراض خبرته ومهارته في صناعة النبيذ تلك ولم أملك إلا أن أحترم شغفه وأمنحه تركيزي التام فيما يقول.

عرض على الزوجين تجربة النبيذ المعتق وقبلوا بلا تردد. راقبت طريقته في السكب فقد كان يضع القليل جداً في الكأس بواسطة مغرفة قديمة يدير السائل في الكأس ثم يقوم بسكبه على الأرض. أعاد الكره مرتين للكأسين الذين قدمهما لجودي وزوجها إريك لاحظت أنهما انبهرا بالطريقة الكلاسيكية تلك في تقديم المشروب.

لم أعد أحتمل المزيد فقد كانت الرائحة نفاذة جداً وخانقة. استأذنت بلطف ولم أصدق أنني عدت لسطح الأرض من جديد.

 

.


مسار رحلة اليوم : Burgos – Hornillos de Camino (21km)
16th night stay: Casa Rural del Abuelo .. Calle Real 44, Hornillos del Camino, Spain
Photo courtesy: Google images.