“Santo Domingo of the Way, where the roosters crow after being roasted”
نزلت لبهو الفندق في السادسة صباحاً من أجل إنهاء اجراءات مغادرتي المكان. عامل الاستقبال في منتصف الثلاثين من عمره اسمه “غوستافو” و ذو أصول برازيلية. دعاني لمشاهدة الخريطة الضخمة في البهو كانت لكامل مشوار الكامينو. قلت له على نقطة البدء التي انطلقت منها في سان جان بييه دو بور وهو بدوره اشار على الخريطة للمدينة التي انا فيها الآن.
احسست بإنجاز عظيم حينما قال لي أنني رسمياً قد قطعت ما يوازي الـ 25% من الكامينو ويتبقى للنهاية 85% فقط. غوستافو بدوره مشى على ذات الدرب خمسة مرات لخمس سنوات متتالية. صاحبته والدته في السنة الثانية واكمل الباقي وحيداً. يقول أن والدته تتحدث دوماً عن تجربتها بكل فخر وحماسه لكل من تراه.
سألته ما الذي جعله يعيد المشوار كل هذه المرات. ابتسم وقال:”هل من عادتك رمي الأسئلة الصعبة على الغرباء؟” ابتسمت له بفضول أكبر فأستطرد قائلاً: “اعتقد أن الكامينو ساعدني لأكون شخص أفضل بقدر المستطاع. حصلت من خلاله على كثير من المعرفة والإلهام والطاقة وتعلمت من كل فرد قابلته”
قلت له: “لو طلبت منك نصيحة واحدة فقط تشاركني بها ماذا ستختار أن تكون؟”. قال بلا تردد: “امشي المشوار بقلب منفتح على البشر والثقافات التي ستمرين بها. لا تخشي أوجاع البدن من الآم قدميك او ظهرك ولا تجزعي ان صادفتك ايام بلا استحمام او طعام فكل ذلك لا يساوي شيء امام نضجك ونموك و خبراتك التراكمية المكتسبة ومعرفتك الحقيقة بالحياة”
انا الآن في الشمال الشرقي لأسبانيا. في بداية رحلتي، كنت في منطقة نافارا المحاذية لفرنسا. كانت عبارة عن غابات مطيرة من الأشجار الضخمة وتلال خضراء مرتفعة عن سطح البحر والمشي فيها كان متعة للعين والروح. اما المنطقة التي انا فيها الآن اسمها لا ريوخا فهي تشبه الأماكن التي يتم فيها تصوير افلام الكاوبوي الأمريكية. سهولها شبه جرداء تربتها يطغى عليها اللون البرتقالي الداكن وجبالها صخرية تحتوي على كهوف بداخلها قيل لي من أحد الرحالة أنها كانت تستخدم كممرات هروب في القرون الوسطى. الجبال بشكل عام كانت منحوتة إثر عوامل التعرية فهي منطقة تشتهر برياحها العاتية. حمدت الله كثيراً أن هذا الطريق الموحش لا يخلو من رحالة آخرين.
بسبب الرياح تلك، فالبرد كان يخترق العظم مثل منشار حاد رغم حرصي على تدفئة جسدي. المشي بعكس الريح كان الجزء الأصعب. جسدك يندفع بقوة للخلف وتضطر للانحناء أماماً وبذل جهد أكبر على عضلات الساق. الغيوم السوداء تنذر بمشي طويل تحت المطر. شاهدت في الطريق صديقتي الكورية اللطيفة “أوما” سعدت كثيراً لرؤيتها وهي كانت تقفز بشكل كوميدي حينما رأتني. عَرَضتْ على مشاركتها الغرفة في محطة المبيت القادمة ووافقت فوراً لأنها سيدة منظمة ونظيفة جداً وللأمانة ايضاً حتى أوفر القليل من مصاريف السكن. ومن باب الدعابة أخذت تعهد منها أن تطفئ منبهها بسرعة صباحاً حتى لا أقضي 90 ثانية أخرى من الرعب كما حدث في المرة الماضية.
على جانب الطريق الرملي خارج قرية أزوفرا Azofra كانت هناك كومة تحترق من الأعلاف و القش كمخلفات لأحدى المزارع. توقفت امامها قليلاً للتدفئة. وواصلت المسير حينما بدأ هطول المطر. البانشو البلاستيكي كان منقذ حقيقي لي ولحقيبتي مع عيب صغير وهو أن الماء المنهمر منه يتسرب لداخل الحذاء. احكمت الرباط حول كاحلي وتداركت الموقف فوراً.
وصلنا لبلدة سيروينا Ciruena. المكان غريب جداً. مباني حديثة وطرق معبدة بالإسفلت وأعمدة إنارة ومحلات على جانبي الطريق ولكن كل شيء مغلق ولم نشاهد احد وكأنها مهجورة.
الجانب الآخر للبلدة لا يقل غرابة. فالمدينة القديمة تهدمت آثارها بفعل الزمن. اطراف من الجدران تناثرت حجارتها وأسقف المباني منهارة تقريباً. احساس غير لطيف ينتابك ويجعلك تستعجل الخطى من أجل الرحيل عن هذا المكان الغامض.
وصلنا لوجهتنا لهذه الليلة مدينة “سانتو دومينغو دي لا كالزادا” Santo Domingo de la Calzada قابلتنا لوحة كبيرة بلغات عدة تحكي عن المدينة وتاريخها. مدينة حديثة رغم تاريخها الديني القديم تشعر بالألفة السريعة مع المكان والبشر. سمتها الغالبة البنايات الحجرية والأزقة المعاد رصفها وتطويرها.
اقترحت على أوما فندق جميل كنت قد بحثت عنه في السابق ووعدت نفسي بالسكن فيه إن استطعت وهو عبارة عن دير سابق للراهبات أعيد تشغيله فندقياً وسياحياً. السهول القريبة منه تم إعدادها لرياضة الغولف صيفاً وللتزلج شتاءً. وجدنا عرض رائع بخمسة وستين يورو شاملة الإفطار وكل منا دفعت ما يقارب 32 يورو ونصف لهذا الفندق الفخم والنظيف والعريق.
اخذنا ملابسنا المتسخة للمغسلة القريبة. كانت كاتدرائية سانتا دومنغو قريبة منا لذا اخترنا التجول فيها لحين انتهاء الغسيل. الكنيسة احتوت أغرب منظر شاهدته في حياتي. في العلية من احد جدرانها كانت هناك غرفة مسيجة بالحديد تحتوي على دجاج حي يتجول فيها. لم أنتبه أن أوما تقف بجانبي وبدأت تسرد لي سر وجود حيوانات في الكنيسة. قالت أنها تعود لمعجزة حدثت في المدينة في بداية القرن الرابع عشر.
الأسطورة تقول أن متعبداً المانياً قدم للمدينة مع والديه وكان وسيماً في الثامنة عشر من عمره وفوق كل هذا عابداً ومتنسكاً. شاهدته ابنة القسيس وأُغْرمت به وحاولت غوايته إلا انه صدها. غضبت وقررت الانتقام بدس قدح أثري من الفضة في متاعه وقامت بتحريض السلطات عليه وكانت عقوبة السرقة في تلك الفترة الاعدام شنقاً. تم تنفيذ الحكم عليه ظلماً وبهتاناً. اقترب منه والديه بعد الشنق فسمعوه يقول لهم إنه حي ويطلب منهم الذهاب للحاكم حتى يفك وثاقه. ذهب والداه لطلب مساعدة الحاكم الذي كان يستعد لتناول العشاء وكان على طبقه دجاجه وديك مشويان. حينما سمع قصة الأبوين ضحك منهما ساخراً وقال: “ابنكما ميت مثل هذه الدجاجات المشوية في طبقي التي من المستحيل أن تعود لها الحياة” وإذ بالدجاجة والديك ينمو لهما ريش من جديد ويملئوا المكان بالنقنقة والصياح.
مسار رحلة اليوم : Nájera – Azofra – Ciruena – Santo Domingo de la Calzada (21km)
11th night stay: Parador de Sto. Domingo Bernardo de Fresneda .. Plaza de San Francisco, 1, 26250 Santo Domingo de la Calzada, Spain
Photo courtesy: Google images.
.