“The Way” *
تجاوزت الساعة السابعة إلا ربع صباحاً حينما انطلقت لخارج الفندق. كانت السماء لا تزال داكنة والبرد يلف المكان. مشيت تقريباً لمسافة خمس دقائق حتى أسمع من ينادي خلفي “سنيورا ، سنيورا” التفت فوجدته عامل الاستقبال في الفندق فقد نسيت أن أدفع ثمن إقامتي لليلة السابقة. شعرت بحرج بالغ قابله هو عن طيب خاطر رفع عني كل بقايا خجلي من الموقف. عدت للفندق معه وأنهيت دفع الرسوم وواصلت المسير مجدداً. هذا الموقف يأخذني للحديث عن أهمية وجود مبلغ نقدي معك خلال الطريق لأن أغلب البلدات لا يتم فيها التعامل بالبطاقات الائتمانية. خطتي كانت سحب مبالغ نقدية كافية في كل مرة أعبر بها مدن رئيسية.
الجبال الصخرية في بيلورادو احتوت على أحد أهم الكنائس الصغيرة المنحوتة في المنطقة حيث كانت قبل 800 عام تعيش فيها سيدة تعرف بإسم “لا ارميتا” نذرت نفسها للعبادة وخدمة عابري الطريق. حينما ماتت أصبح المكان ذو قدسية خاصية لأهل البلدة وباتوا يقيمون كل عام احتفالية وموكب يمر عبر كافة بيوت بيلورادو تخليداً لذكرى تلك السيدة المتنسكة والمحبة لعمل الخير.
ازداد الطقس سوء مع تبدل طبيعة المكان من سهول منبسطة لتلال مرتفعة في قرية Espinosa del Camino . سقط المطر وبدأ الطريق الرملي موحلاً أكثر والطين لزجاً وزلقاً. اما الرياح فقد كانت تشتد شيئاً فشيئاً. بدأ البرد يجمد يدي ولم أنتبه أنني لم البس قفازي إلا بعد أن تمكن الصقيع من أطرافي.
ارتفعت لحدود 1100 متر تقريباً عن سطح البحر ودخلت لغابات كبيرة وأشجار الصنوبر ذات الرائحة العطرة التي تصاعد شذاها أكثر بعد توقف هطول المطر. وصلت عبر جسر فوق نهر أوكا لبلدة أسمها Villafranca Montes De Oca وقررت التوقف فيها للاستراحة و تناول الغداء.
في مطعم صغير على الزاوية التقيت بفتاة ناقمة على كل شي أسمها “آنا” عرفت لاحقاً أنها قادمة من هولندا. تتحدث الإنجليزية بلكنة أمريكية وبطلاقة ملفتة. صوتها العالي امتلأ سباب ولعنات على المكان وعلى النادل المسكين الذي لم يفهم طلبها. بعد أن هدأت ثورة غضبها التفت إلي وبادرتني بالسؤال عن مدى قدرتي على استكمال المشوار. قالت أنها بدورها تمشي الكامينو بعد مشاهدتها لفيلم مارتن شين The Way الذي يحكي قصة أب فقد أبنه المسافر على ذات الدرب وكيف أنه قرر أن يستكمل المشوار بدلاً عنه.
عادت تلعن وتشتم من جديد في الفيلم وأبطاله وكاتب السيناريو وفي البلد وفي اللحظة التي مشت فيها هذا الطريق. قالت إنها تتحرق شوقاً للوصول لمدينة فيها مطار دولي حتى تعود أدرجها لبلدها وكم أنها نادمة على الأيام التي ضاعت من حياتها هنا. نهضت والتفت إلى قائلة: “أنتِ مجنونة إن أضعتِ من عمرك مزيدٍ من الوقت حتى نهاية الكامينو”. لم تنتظر إجابتي بل مشت بسرعة وبقيت خلفها مشدوهة بكل المشهد.
لاحت لي من بعيد بلدة سان خوان دي اورتيغا St Juan de Ortega وبدا لي أنني سمعت طلقات نارية كنت أعتقد أنها صادرة من أحد الصيادين في المنطقة. زادت أصوات الطلقات وضوحاً كلما اقتربت من وسطها حتى اكتشفت أن هناك عرساً في ساحة البلدة وأن صوت الطلقات ما هو إلا ألعاب نارية يتم إطلاقها ابتهاجا بهم. ملأ دخان الصواريخ عموم المكان مع علو الموسيقى المبهجة و توزيع الحلويات على المارة. سان خوان دي اورتيغا صغيرة جداً وعدد سكانها يبدو محدود من قلة المنازل فيها.
تشتهر البلدة بكنيستها الحاوية لرفات القديس خوان شفيع الخصوبة حيث يأتي له كثير من الأزواج طلباً للرزق بالذرية.
وأنا أدون الآن تذكرت أن في بلادنا العربية بعض الأماكن والمدن التي لا يزال الناس يترددون عليها تبركاً بها و طلباً للرزق أو للخصوبة. تشابه البشر من ديانات وبلاد مختلفة أمر عجيب ويدعو للتأمل.
على جانب الطريق شاهدت عامود أسمنتي ضخم وكأنه نصب تذكاري تعلوه قطعه معدنية على شكل حمامة سلام فضية وغصن الزيتون في منقارها. النصب يحيطه سياج حديدي منخفض. الكتابة كانت بالأسبانية و للأسف نسيت تدوينها لترجمتها لاحقاً. الرحالة يقفون أمامه بإجلال ويغمضون أعينهم ويدخلون في صلوات صامته وبعضهم يلتقط الصور أمام النصب التذكاري هذا.
اشتدت برودة الجو حينما شارفت على الوصول لمحطتي الأخيرة لهذا اليوم في آهيس Agés اضطررت للمبيت في نزل صغير للضيافة وتشاركت الغرفة مع سيدة فرنسية لا أذكر أسمها لأني تحاشيت الاحتكاك بها نظراً لحدتها في التعامل. انتظرت بفارغ الصبر بزوغ فجر اليوم التالي لسرعة الرحيل من المكان الممتلئ بالحشرات. حالة الضيق التي انتابتني من محيطي هذا والسيدة النزقة شريكتي في الغرفة جعلتني أتذكر تلك الفتاة الهولندية التي التقيتها اليوم على الغداء. كلماتها ترن في أذني وبدأت أعيد حساباتي في رحلتي هذه. هل سأكمل المشوار فعلاً.
ملاحظة:
هذه التدوينة كتبتها في دفتري لتسجيل احداث يوم أمس (17 نيسان) ولم أتمكن من رفعها لعدم توفر جهاز كمبيوتر.
.
مسار رحلة اليوم : Belorado – Agés (28 km)
13th night stay: Albergue San Rafael .. Calle Adobera, 18 bajo, 09199 Agés, Burgos
Photo courtesy: Google images.
* The Way