هنا كابري ..

استيقظت وعلى غير عادتي قمت بالركض إلى شرفة غرفتي في الفندق.
لست في حُلُمٍ اذاً .. البحر الأزرق يمتد أمامي ولسعات برد بدايات فصل الخريف تداعب وجنتيّ.

أنظر لأسفل الشرفة ، أجد أشهر دور الأزياء العالمية تصطف على جنبات شارع صغير تحت فندق سأقيم فيه لثمانِ وأربعين ساعةٍ القادمة.

هنا كابري ..

جزيرة إيطالية فاخرة ، باهرة ، بهيّة ، شهيّة ، باذخة السحر.

أخترت بإرادتي الانضمام لمواكب المفتونين بالجزيرة ، وأن تحلّ علي غواية مخلوقات أسطورية كانت كما يشاع قديماً تجذب إليها البحارة بالموسيقى والغناء.

اتذكر الآن ، أن إحدى العبّارات السريعة اقلتني من ميناء نابولي المعروف بإسم “كالاتا دي ماسا” و في أقل من ساعة لاحت الجزيرة الصغيرة من بعيد ، كقطعة مخمل خضراء وسط حرير أزرق. أتيتها طواعية بحثاً عن أسرارها القديمة وعن دهشةٍ أحتاج إليها.

في البدء وكعربون محبة، قدمت لنا الجزيرة مرفأ ذو مباني ملوّنة و مكوّنة غالباً من ثلاث طوابق فشعرت فوراً بأنني أحب الحياة ، وأحب هذا المبنى العتيق و نوافذه الحديدية المؤطرة ، والشرفات المرصعة بالزهر ، وبعجوز يقف في بلكون صغير غارقاً في حديث طويل مع زوجته المسنة ذات الفستان المنقوش ، إنها أوقات نادرة أشعر خلالها بجمال الدنيا.

“المارينا غراندي” ..
او المرفأ الكبير ، نافذة الجزيرة على العالم وبوابة كل هذه الفتنة .. بطاقتي الفعلية للإنغماسِ في تجربةٍ إستثنائية.

حقيبتي كانت خفيفة ، لذا وجدت نفسي اتقدم زحام البشر المتراص في الميناء ، واستقليت على عجل مصعد معلق او العربة المائلة.

من الداخل ، كان المصعد واسع ذو نوافذ زجاجية شفافة ، اخذنا طلوعاً إلى وسط المدينة و ساحة صغيرة ، هي الأشهر على الإطلاق.

“البيازيتا” ..
برج ساعة برتقالي يرتكز عن يساري ، و غيمة رمادية تقضم الجبل على يميني و جرعة طازجة من هواء بارد لم اعتد عليها بكل هـذا الزخم.

امامي تصطف المطاعم والمقاهي في تمازج عجيب وكأن المقاعد حبات من الكرستال صغيرة تم حياكتها بغرز متقاربة و متجاورة على ذات القماش.

بين البشر والحجر اخترق المكان واتجه مباشرةً للفندق عبر جادة “كاميريل” الشهيرة بمحالها الراقية وبضائعها الفاخرة ، فأستوعب أن مكان إقامتي بناية تشترك مع دور الأزياء بأسطح متشابكة متداخلة تجعلني “حرفياً” انام فوق بوتيكات راقية ، بولغاري يقابله موسكينو ، وهناك المح غوتشي وأمامه شانيل.

عدتُ إلى سريري وابتسمت ، و ادركت حينها أن وقتي في الجزيرة إختباراً حقيقياً في قوة الإرادة والقناعة وكبح شهوة الشراء ، حينما نعلم أن تلك المحال تخصص إنتاجات محدودة و حصرية لا توجد الا هنا ، في كابري.

الغرفة واسـعة ، بيضاء ، بسيطة ، يكمن سحرها في الأرضيات المرسومة يدوياً على قطع مربعة من الخزف الإيطالي الشهير بإسم “الميوليق”.
النقوش ، في كل مربع ، ليست بالضرورة متماثلة مع المربعات المجاورة لها ، فسحرها وجمالها يكمن في عدم دقتها المفرطة والمملة. الأزرق مستخدم ببذخ يليه الأصفر ، ودرجات البرتقالي ، ويشارك الأخضر على استحياء في بعض الزوايا.

الشرفة ، تختبئ خلف ستائر رقيقة بيضاء ، وبابها المفتوح يجعل قماشها يبدو لي في وصلةِ رقصةِ “تانجو” مع الهواء ، جلست على كرسي خشبي اصفر و امامي البحر ، يساري الجبل الذي قضمته الغيمة ، اما عن يميني ، فثمة بيوت تندس بشكل متدرج في حضن الجبل الآخر.

قررت النزول ، وإكتشاف كابري دون التفريط بدقيقة واحدة ،، أحببت أن تكون البداية بمثابة جرعة مكثفة من حياة الناس هنا ، تذوّق الطعام المحلي والاستمتاع بالمكان والطقس ، لذا أخترت الساحة الصغيرة الشهيرة “البيازيتا”. تتشابك المطاعم بالمقاهي ، واشتراكهم لذات الأرضية المرصوفة بالحجر يجعل المفاضلة بينهم أمراً باعثاً للحيرة.

أخترت أقرب مقعد ، وقررت البدء بكوب من القهوة. بجواري كانت تجلس سيدة سمراء ، عرفت من لهجتها أنها امريكية. ابتسمت بمكر لطيف وقالت انها كانت ترقب حيرتي وانها راهنت نفسها بأنني سأختار هذه الزاوية. قررت أن العب معها لعبتها واجاريها ، احسست بأن الكلام معها سيقدّم لي قصصاً اتسلّى بها لاحقاً واكتبها. بدت لي السمراء متحمّسة دوماً ، لأي شيء .. وكل شيء.

تتسع عينيها حين تتمكن الدهشة من وجهها ، و تلهث كلماتها من زحمة الصور في رأسها ، تتفجّر و كأنها تمثّل المشاهد التي ترويها لي ، لها نظرتها المتفحصة للعابرين ، وصفها الدقيق لطريقة هندامهم المتكلّفة ، بقمصان “بريتون” المقلمة ، فساتين الكتّان الصيفية المهفهفة ، أوشحة “إيرميه” المزكرشة ، قبعات القش ، حقائب “بيركن”، نظاراتهم الداكنة العريضة ، سلوك بعضهم كسياح حالمون بشكل مفرط ، و مشية بعضهم المتبخترة المتعالية.

قالت السمراء: “السمك هنا مجمّد وغير طازج رغم أنها جزيرة يحيطها البحر من كل الاتجاهات ، و هناك مطبخ رئيسي وحيد بالأسفل ، يخدم جميع المطاعم في الساحة ، فنوعية الطعام المقدّم لنا متشابه ، ورديء لذا اغفري لي سخريتي من حيرتك حينما جلستي بجواري قبل لحظات”

قالتها بصوت جهوري وتبعتها بضحكة مجلجلة .. ضحكت كثيراً واستآؤوا اصحاب المطعم من ضحكاتها. ذهبت السمراء وبقيت لي الدهشة ، ثم تبخّر السحر عن المكان في ثانية واحدة.

ركزت نظري على قدميّ ومشيت حتى وصلت لموقف سيارات الأجرة المطل أيضاً على البحر ؛ فكل موقع في كابري يصافح البحر نهاراً ، ويهدهده بتراتيل النوم مساءً.

اثنان من اليوروهات كافيان بأن يقلناك على بساط الريح لقلب “آنا كابري” ؛ موطن السكان المحليين من الجزيرة.

لم استخدم تعبيراً مجازياً حينما قلت “بساط الريح” فسائقي التاكسي يقودون بسرعةِ جنونية خلالِ تعرجاتٍ جبليةٍ ضيقة لطرق تنضح زواياها بالخضرة والزهر والحياة.

حينما كنت اجلس في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة ، لمحت ملصقاً دعائياً لمحل الصنادل الجلدية الشهيرة “كانفورا” اكتشفت من العنوان المدّون اسفل الملصق أنه في جادة “كاميريل” اي قريب جداً من الفندق الذي اسكن.

بذات سرعة التاكسي ، لاحت لي مشاهد خاطفة بالابيض والاسود لسيدة امريكا الأولى “جاكلين كينيدي” واميرة موناكو “غريس كيلي” وهن يبتعن منه صنادل جلدية مميزة.

رحل الصنايعي الشهير “امايديو كانفورا” ، وترك إرثه العريق لصناعة غارقة في المحلية تحمل عبق المكان. اما هن فتركن خلفهن صور ، وحكايات ، وتصاميم خاصة بهن ، وحلم لكل سيدة بأن تقتني زوجاً من تلك الأحذية حينما تسنح لها فرصة زيارة الجزيرة.

اما حفيده “كوستانزو” فهو مستمر حتى اليوم في استقبال الزبائن ، “ببنجورنو” مرحبة وابتسامة عريضة هامساً لك أن التصوير ممنوع ، بل يكاد يقترب لديه من التجريم القانوني.

العجوز كانفورا ليس وحده من يصنع صنادل كابري الجلدية ، فلقد التقيت شخصياً بالسنيور “سلفاتوري باندولفي” في صومعته التي يسميها “ ُمحْتَرَفاً” يعمل بيديه ، خاشعاً ، متبتلاً ، كأنه يتلو صلواته ، او يمارس التأمل ، كان حفيده يجالسه ايضاً في سلسلة عجيبة لتوارث الحرفة جيلاً بعد جيل.

اما ثالثهم ، صاحب الشنب الأبيض الأشهر في الجزيرة فهو سنيور “آنتونيو فيفا” و يعتبر ضلعاً هاماً في مثلث حرفيي آنا كابري ، يمتاز عن زملاءه بتنوّع التصاميم البراقة ، وتعددها اللوني الجريء في إشباع للعين والروح معاً.

ما أن وطئت قدماي “آنا كابري” حتى كانت وجهتي الأولى ساحتها وقلبها النابض ، اسمها “بيازا فيتوريا” .. مساحة مكانية صغيرة تجمع اطراف المدينة لمنتصفها تماماً ، (محطة حافلات وحوانيت تحف و تذكارات) يتخللها بعض مطاعم اهل البلد المحلية غير المدرجة على قوائم مواقع السياحة والسفر مثل Le Arcate للمأكولات البحرية او Sciue Sciue للبيتزا والوجبات السريعة.

شيء من بيروت ، مراكش ، او قصر المصمك في الرياض ، تلك الطرز المعمارية التي اجتمعت في “كازا روزا” متحف المدينة الجبلية الغافي على احد طرقاتها الفرعية. شبابيك بيروت ولون بيوت مراكش القرميدي الأحمر ومقرنصات اسطح قصر المصمك ،حشد من تنويعاتٍ هندسية تجاور بعضها بعضاً ليكتنز المكان مزيداً من الدهشة.

المتحف كان بيتاً لمستكشف امريكي بدرجة عقيد سابق ، واحد محاربي الحرب الأهلية الأمريكية ، سكنه مع زوجته وجعله وطناً بديلاً لهما، كان غريب الأطوار يشتعل غضباً بسرعة ويعود للهدوء مرة اخرى لذا اطلق عليه اهل المدينة اسم “اقطع وكشر” لكنه -رغم كل ذلك- استطاع ان يصنع صداقات متينة معهم.

زوايا المتحف معبأة بالذكريات على هيئة لوحات فنية نادرة تحمل مسميات شهيرة في عالم اللوّن والتشكيل مثل لوحتيّ “مراسم الزفاف” و “صاحب المطعم” و تمثالين شهيرين يسجلان معاً تاريخ ضارب في القدم للجزيرة الحالمة ، احدهما تم استخراجه من المغارة الزرقاء ، يحتفظ بملامحه رغم سنوات الغرق الطويلة ، التمثال الآخر لكاهنة من القرن الاول ميلادي ، تقف بشموخ عند البوابة وكأنها تهدي الزائرين حكاية المكان.

اليوم ، تم نذر القاعة الكبرى بالكامل للأمآسي الثقافية ولقاءات دورية لممارسي “الأوتيوم” او فلسفة تأمل الفنون والانفتاح على انسانية الانسان في كل مكان.

وحتى نفهم اصل حكاية كابري، لننظر للمكان من علٍ ، نصعد لجبل “مونتي سولارو” أعلى قمة في الجزيرة ومطلها الأجمل. كرسي معلق مثل ذلك المستخدم في مرتفعات التزلج على الجليد ينقلك بمبلغ زهيد لوسط الغيم ، تتحزم بالسحب وتراقص الريح ، قِبْلَةُ السياحة وتاريخها القديم. تنظر للأسفل فتجد البيوت تتراكم على السفح وكأنها حبات خرز تم طرزها على قماش زبرجدي أخضر.

يغريني المكان بأن افتح ذاكرتي واصنع منها حقيبة نهمة تلتهم مشاهد هذا الجزء من العالم وتلمح تفاصيله الصغيرة ، وتختزلها لاحقاً على شكل قصة لمكان آسر وحكايات تُروى ، فأنا الآن في وسط البحر “التيراني” بمحاذاة الساحل الجنوبي لخليج نابولي ، ولو امعنت النظر عن يميني قد المح سورينتو ، بورتوفينو ، بوسيتانو وغيرهم من قرى ساحل “الآمالفي” ذات الالوان المفعمة بالفرح والحياة.

وبالعودة للتاريخ سنجد ان كابري مفردة اغريقية مشتقة من “كابروس” وتعني الخنازير البرية ، و في الأزمنة القديمة كانت الجزيرة منتجعاً لاباطرة الرومان وملوكها ، تم ذكرها في “اوديسة هوميروس” وتوجد بها حتى اليوم آثار رومانية عديدة شبه مدمرة تلتمع حجارتها تحت الشمس صيفاً وتكتنز الغموض والوحشة شتاءاً.

من ضمن تلك الآثار، صهاريج رومانية ، واحواض من الصخر تم استخدامها لتجميع مياة التبريك والتطهر قبل الصلاة في المعابد الملاصقة لها، – وهو ما يؤكد بأن الوضوء هو طقس ديني قديم تم ممارسته قبل الديانات السماوية الثلاث- اما الباقي من آثار اعمدة المعابد يُبرز روعة الحفر ومهارة ودقة النقوش على الحجارة ، وأن لكل رسم رمز، فالقمح يرمز للخبز ، عناقيد العنب ترمز للنبيذ ، بينما الورود والنساء يرمزان لحفلات صاخبة كانت تُمارس في تلك المعابد كطقس صلاة.

لاتزال بقايا صهاريج حفظ مياة الامطار باقية رغم ما لحق بها من تخريب بشري بعد اعتناق الدولة الرومانية للديانة المسيحية. اهمية تلك الصهاريج تكمن في انها كانت مصدراً وحيداً لحفظ مياة الشرب في كابري فليس هنالك للجزيرة مورد ماء آخر ، لذا لا عجب من رؤية قطعان الماعز البري بكثرة في تلك المنطقة لوفرة احواض السقيا والمرعى.

“منزل بذاكرة متراكمة” جملة تختزل ما قد اصف به “فيلا سان ميشيل” ، بناها وسكنها الطبيب السويدي “آكسيل مونتيه” قبل أكثر من مائة عام ثم اهداها لاحقاً لسكان الجزيرة كعربون محبة.

تم تشييد الفيلا على فكرة فلسفية خاصة قائمة على ثلاث عناصر “الطبيعة / الثقافة / الفن”. في كل زاوية ذكرى وقصة ، و وراء كل عامود مزخرف وسقف منقوش وقرميد عتيق وشبابيك ملونة كانت هناك ايادٍ عمّرت بحب وذوق واعطتها رونق خاص بالمكان.

تحتوي هذه الفيلا على منحوتات نادرة وقطع موزاييك اثرية. ارضيته مزخرفة بنقوش مرسومة يدوياً بأشكال بهيجة تجعل منه تحفة فنية حُبلى بدلالات و رموز دينية عديدة.

تحتضن “سان ميشيل” ايضاً منحوتة مصغرة من الغرانيت الزهري لتمثال “ابي الهول” يطل من شرفة وكأنه يتأمل البحر. حاك السكان المحليون حوله اسطورة مفادها أن من يلمس ظهر التمثال بيده اليسرى ويغمض عينيه ويتمنى ، فإن امنيته تتحقق.

ينجذب السياح كذلك للحدائق الغناء الملاصقة للفيلا ، فهي تندرج ضمن قائمة أفضل عشرة حدائق في ايطاليا ، الوجهة المفضلة لمصوري حفلات الزفاف والمناسبات الخاصة.

في تيهكَ وتسكعكَ في نهارات الاحد الكسولة تلمح بيوت منبثقة عن حدائقها ، واشجار المجنونة تتدلى من وراء الاسوار ، تمد اغصانها مصافحة لعابرين غرباء. الازقة الضيقة معطرة برائحة الأرض تضفي حميمية خاصة ودفء يلف البيوت يجعل من رجالها اساتذة عشق ونساءها حكّاءات بالفطرة.

امامي منزل تلتف حوله عريشة عنب في عناقٍ حميم ، يتزين مدخله بثمار الصبار ، شرفاته الحديدية مزورعة بأنواع عدة من مطيبات المطبخ الايطالي على هيئة اعشاب عطرية مثل الريحان ، المردقوش ، البقدونس ، والزعتر حتى يكاد لك أن تتخيل سيدة الدار تقطف اعشابها وهي متكئة في سريرها لتهبك طبق يحمل مذاق الطبيعة البكر.

في نهاية اليوم الأول على الجزيرة ، احببت ان اختتمه بتجربة حسية متكاملة تغسل تعب اليوم الطويل. مطعم شجرة الليمون او “Ristorante de Paolino” تم تصميمه بشكل خاص ليولد حرفياً من حضن البستان. اشجار الليمون قطوفها دانية ، تصل لرواد المكان وفوق رؤوسهم ، تنشر رائحتها الطازجة لتهيئ حواسك لتجربة طعام فريدة.

ارقام الموائد مكتوبة على قطع صغيرة مربعة من الخزف ، اطرافها مرسومة يدوياً بالنقش المميز للجزيرة تم تعليقها على جذوع الشجر وكأنها عنوانك وبيتك لهذا المساء.

اخترت في البدء سلطة كابريزي بجبنة الموتزاريلا الطازجة مع الطماطم والريحان وزيت الزيتون. الوجبة الرئيسية كانت رافيولي محضر يومياً بحشوة السبانخ وجبنة الريكوتا الايطالية الشهيرة. اما طبق “الحلو” فكان تورتا كابريزي خالية من الطحين و باللوز المحمص والشكولاته ، صحن صغير يفيض بالسكر واللذة.

شركاء اللحظة في الطاولات المجاورة كانوا يتشاركون بسعادة شراب الليمونتشيلو الكحولي الخاص بكابري والمحضر من الليمون بطبيعة الحال ، فالليمون مكوّن اساسي في مأكولاتهم وحلوياتهم ، في صناعاتهم المحلية الصغيرة من زيوت عطرية وصابون.

خلال مواسم الحصاد ، تنتشر في كل زوايا الجزيرة حوانيت خاصة تبيع كل ما يتعلق بهذه الفاكهة كتذكارات يحملها السواح في حقائب عودتهم لديارهم.

{ اليوم الثاني }

بداية اليوم الثاني كانت مخصصة لزيارة مَعْلَم الجزيرة الشهير ، نلمحه في التذكارات و طوابع البريد وعلى منشورات السياحة. “فاراليوني Faraglioni” تشكيل صخري ، يقع في الساحل الجنوبي من كابري. ما ان رأيته في الواقع امامي حتى هبت نسمات بيروت وتذكرت صخرة الروشة.

بعض المرشدون السياحيون ومن باب ضيق الوقت ، وعدم انتهاجهم للصدق في التعامل مع السياح يمررون لهم أن صخور الفاراليوني تضم بين جنباتها المغارة الزرقاء الشهيرة “غروتو آزورو” ، والحقيقة أن المغارة تلك تقع على الطرف الآخر من الجزيرة.

السكان المحليون مرتبطون بالتشكيل الطبيعي لجزيرتهم ويطلقون اسم على كل صخرة.
“ستيلا” هي الصخرة الأقرب للساحل ، اما الوسطى فتُدعى “ميزو” و تلك المحاذية للبحر اسمها “سكوبولو” وتحوي كميات هائلة من السحالي الزرقاء المنتشرة فقط في كابري.

من المحزن ان هذا التشكيل الصخري البديع ما هو إلا “شرفات لحالات الانتحار الانيقة” كما وصفها في مطلع العشرينات الشاعر الايطالي مارينيتي في إشارة للوجه المظلم للجزيرة وحالات الموت الاختياري في اعقاب الهجرة الجماعية للمثليين من ادباء وفنانين ، ولجوؤهم للجزيرة خلال القرن الماضي.

اشجار كابري المعمرة في حديثٍ وديٍ و دائم مع الأرض ، فتكاد أن تتشكل الجزيرة امامك على هيئة احاسيس حية. تشعر لوهلة أن العالم يمدك بروائعه البكر ويجلي احداق عينيك بعد أن داهمهما القبح في مدن مصنعة ، لتغمر روحك الغبطة والرضى ولو مؤقتاً.

يأتي نيسان في كل عام ، يرش وروده على المنازل ، ينثر ازهار الزنبق البري والهايدرينجا على جنبات الطرقات ، وتتدلى الوستارية البنفسجية لتظلل الأزقة الضيقة.

عرائش العنب تنافس البوغانفيليا -المجنونة- في تمددها لتفرد اغصانها نحو بساتين الحمضيات من ليمون وبرتقال فيكتمل مشهد الخضرة في الجزيرة بأشجار الصنوبر العملاقة في التلال ، والنخيل المشرقي بين البيوت ، مع اشجار الزيتون ذات رائحة الأرض الندية.

الحديث عن روائح الطبيعة في كابري ، يقودنا لعالم “كارثوسيا” الشهير ، او الاسم المرادف لحرفة تقطير العطر يدوياً بإستخدام نتاج بيئة المكان من الزهور واالاعشاب البرية.

كعادة سكان الاماكن الصغيرة، نسجوا اسطورة عن عطور “كارثوسيا” ، تقول بأنها خلطة مقدسة تم تقطيرها في القرن الرابع عشر على يد قسيس في دير “سانت جيمس” ، وحين ارادوا إعادة فتح المصنع مطلع الاربعينات ، احتاجوا موافقة بابا الفاتيكان شخصياً.

متجر العطور هذا يقع في قلب القسم التجاري من الجزيرة ، وله عدة افرع في مدن مختلفة من العالم ، لذا فقد تكون هدية مميزة من كابري للزوج ، الأب او الاخ ، فحتماً لا يقلون وسامة عن الممثل الهوليوودي “جورج كلوني” اشهر من يبتاع تلك العطور سنوياً وبكميات ضخمة.

جنّة الاثرياء هذه بكل مباهجها قد تحمل خدوشاً غير لطيفة في الصورة العامة عن الجزيرة ، فهي في ذهن زوار اليوم الواحد ربما تكون اقرب إلى كابوسٍ سياحي ، نصب واحتيال بعض مكاتب السياحة يطرد اي ذكرى حسنة قد تتركها كابري في الاذهان ، بالإضافة إلى أن السكان المحليون في “آنا كابري” غالباً لا يرحبون بالسياح ويكونوا دائمي التذمر من وجود الاعداد الغفيرة بين الازقة الضيقة.

الصيد الجائر للأسماك ، محاولات تهريب السحالي الزرقاء النادرة ونباتات المحميات تعد جميعها هموماً دائمة لعاشقي الحياة الفطرية من سكان وزوار على حدٍ سواء.

خفت حدة توهج الشمس لهذا اليوم ، هبت نسمات باردة لطفت كثيراً من الجو العام. اخذتني تعرجات الجبل بمحاذاة البحر حتى وصلت لمبنى انيق جداً ينام أعلى التلة يعد من أكثر الفنادق فخامةً وجمال ، فندق “Relais & Chateaux” مزيج لوني فريد من اصفر وبرتقالي باهتين حاضرين بقوة على جدران المكان.

الطراز الايطالي العريق ، النوافذ المستطيلة والشرفات الصغيرة يكسوها الحديد المزخرف ، وقناطر عدة تتداخل لتشكل ممرات من الفخامة القديمة. بلاط الميوليق المنقوش يسكن الارضيات ، وانواع كثيفة من النباتات والزهور المختلفة تحيطني من كل جانب.

هنا ، سكن “الملك فاروق” حينما تم نفيه في العام ١٩٥٢ ميلادية. سبقه جده “الخديوي اسماعيل” لذات المنفى قبلها بسنوات عدة ، لذا لم يستطع الملك الفكاك من سحر كابري وكانت خياره الأول من بين مدن العالم قاطبة.

تندلع حروب وتنطفي معارك وتصمت ثورات البلدان والجزيرة على حالها ، خلت من شخوصها التاريخية ولكن زواياها مُلئت بالحكايا ، يتدفق المساء لقلب “فاروق” ويدرك لعبة الزمن ، جلس هنا في الشرفة الواسعة شارحاً للبحر الابيض المتوسط حكايته السوداء. صَمَتَ و حَلمَ برؤية الاسكندرية الساكنة في الضفة المقابلة فبعد أن كان حاكماً ، اصبح محكوماً بالملل والحنين.

المكان مكلل بالتاريخ تتفرع دهاليز المبنى المكتضة بالقصص وتفشي اسراره لكل من يمر من هنا متأملاً ومتعجباً. ودون أن يتسنى للملك الشاب السلام على بحر الجزيرة الوادعة ومرسول غرامه لبلده، أكل الليل كل شيء بسرعة غريبة … ومات “فاروق”.

بالقرب من الفندق تتشكل من الطبيعة البكر اعجوبة أخرى لكابري. تأخذك التعرجات الجبلية الضيقة وممرات المشي الطويلة ذات حجر مرصوف بدقة إلى أن تجد نفسك في حدائق “اوغوستس” ، محاطٍ بكل نباتاتِها وازهارِها واعشابِها واشجارها النادرة ، فالحدائق هنا عبارة عن مدرجات طبيعية تحكمها الدقة وتبث بداخلك مسرات حسية وكأنك تعيش بداخل قصيدة.

ان واصلت مسيرك مشياً، تكون في أقرب نقطة من الساحل للفاراليوني ، امامك مباشرة بصخوره الثلاث ، الأكثر وضوحاً وارتفاعاً.

على قارعة الطريق المؤدي للحدائق ، وحين يبلغ التعب منتهاه ، يلوح “كشك تيزانو Tizzano” كتعويذة هاربة من كتاب اسطوري ومعراج ملوّن بإتجاه الفرح واللذة. يقدم الكشك العتيق بوظة الليمون التقليدية الأكثر شهرةً وقدماً على الجزيرة. توراثت ملكيته ذات العائلة منذ عام ١٩٤٥ وحتى اليوم.

المشي بمحاذاة الساحل يكشف عن جمال خبيء وقطعة من الجزيرة كأن التاريخ نسى أن يحملها معه. اطلالة ساحرة على “المارينا بيكولا” او المرفأ الصغير. نافذة سرية تُفْتَحُ على حشدٍ من التفاصيل المدهشة وبقعة من كابري تحتفي بالحياة على طريقتها.

في الخمسينات من القرن الماضي ، كانت هذه المنطقة تجمعاً لفناني اوربا من مطربين وكتاب. اُشْتُهِرَتْ عن المارينا بيكولا اغنية ساخرة للمطرب الانجليزي “نويل كووارد” تحمل عنوان “حانة في المرفأ الصغير” تتحدث عن ارملة انجليزية مسنة قررت أن تبحث من جديد عن الحب والحياة لتسجل الاغنية لحظات مجونها العابرة مع بحارة الجزيرة وحكاياتها مع الصيادين.

جادة “كروب” المتعرجة بممراتها الحجرية الضيقة لا تبعد كثيراً عن المرفأ الصغير ، وتعد مساراً مثالياً لهواة رياضة المشي “الهايكينق” ، تنقلهم بمنحنياتها الحادة من أعلى الجبل حتى تصل بهم للشاطيء الصخري ، مع الاشارة إلى أن السلطات المحلية تُكثر من اغلاق الجادة في مواسم المطر و جنون العواصف.

تضم الجزيرة ايضاً مسارات شهيرة ومتعددة ، مثل “الحصن” الممتد بطول ثلاث ساعات من المشي المتواصل ، وتستقبل دروب الجزيرة المغامرين من كلِ بلادِ الدنيا في أشْهُرِ الصيف من كلِ عام.

نهاية هذا النهار الطويل كانت في مطعم “لا باليت La Palette” ، زاوية من العالم مؤثثة بالاغنيات المبهجة للعقل والروح ، مطعم حميم ودافئ ، كان سكناً خاصاً لعائلة قرر افرادِها أن يتشاركوا بتحضيرِ أطعمةٍ تخرج من القلبِ لا الفرن ، مناسب للعشاء المبكر او الغداء المتأخر ، وبإطلالة مباشرة على البحر ، وكأنه يهديك الموج على طبق من البورسلان النادر ، تراقب الغروب وتشعر أن ثمّة شمس تخصك وحدك ، تربت على اهدابك معلنة نهاية يوم ساحر لجزيرة فاخرة.

{ اليوم الثالث }

نهارات كابري الجديدة مأهولة بالحياة دوماً ، تحشد مسرّاتها لإشباع حواسك ، بدء من تدفق اشعة الشمس بإستحياء على اسطح المباني ، ساكبة لونها البرتقالي الباهت ، مروراً بطيران اسراب الحمائم بغتة من بين اغصان الشجر ، وانتهاء برائحة الكعك الطازج من المخبز الصغير تحت شرفتي. اشعر هنا أن السماء تبدو أقرب و البحر يغريني لإكتشاف النسخ العديدة من اللون الازرق.

اصطحبت نفسي في نزهة صباحية ، اخترت زيارة مغارات كابري في أقصى الساحل الشمالي الغربي. يطلق عليها السكان المحليون اسماء حسب اللون الغالب لها. “غروتا بلانكا” البيضاء ، “غروتا فيردي” الخضراء و “غروتا آزورا” الزرقاء ، والأخيرة تعد الأشهر عالمياً والأكثر ازدحاماً ، يكمن سحرها بأن اشعة الشمس تتسلل عبر الماء إلى داخل الكهف فتخلق انعكاساً ازرق يجعل الموج يتلألأ ، فتبدو المغارة وكأنها تومض وتلتمع ، فلا كلمات تصف ولا صور تنقل لحظات هذا السحر الطبيعي.

المعاملة البغيضة من بعض اصحاب المراكب للزبائن ، الحالة الجوية المتقلبة ، طوابير الانتظار الطويلة و ضيق المدخل المؤدي للمغارة الذي يستدعي تكدس السياح في مركب صغير متراصين طولياً مثل سمك السردين ، مع وجوب خفض رؤوسهم كي لا تصطدم بالمدخل ، جميع ما سبق عوامل تؤثر على نجاح تجربة زيارة المغارة بلا شك. مجموعة من اصحاب المراكب حولوا المكان لتجارة مبتذلة سلبت السحر القديم لهذه البقعة الفريدة في كابري.

تسرب مياة المجاري للمغارة كانت شائعة صادمة ساهمت لفترة بعزوف الناس عن دخولها ، قامت مافيا نابولي بنشر هذه الشائعة لضرب سياحة جارتها كابري في مقتل ، ورغم كل ذلك يتجدد سحر المغارة سنوياً ويستمر تدفق المراكب لداخلها.

وبما انها جزيرة، فإن تعدد الشواطئ والمنتجعات البحرية ينعش رحلات اليوم الواحد ، الفنارة او المنارة في اقصى الجنوب الغربي للجزيرة بلونها القرميدي المميز ، تلوح من بعيد للسفن وترشد رواد البحر لضفاف كابري الآمنة وتحديداً منطقة “بونتا كارينا” حيث تنتصب بشموخ منذ عام ١٨٦٧ تحت التلة وبمحاذاة الشاطئ الأجمل على الاطلاق عند وقت غروب الشمس. تعتبر منارة كابري ، الثانية ارتفاعاً ضمن الحدود الايطالية بعد مثيلتها في مدينة جنوه.

جزيرة كابري تواصل سحرها وكرمها مع كل من تطأ قدماه اراضيها. تمنح روادها ذاكرة طازجة مليئة بالشخوص والحكايا. كان طوافي الأخير في شوارع جزيرة المثقفين والمشاهير من ساسة وفنانين يقرأ حيوات من رحلوا، الذين كانت لهم كابري محاضن ثقافية لا تنضب ، وامسيات خلدتها الكتب والرسومات.

وصفها الروائي الروسي “ماكسيم غوركي” بأنها (لقمة صغيرة ولكن رائعة ، في كابري أشعر أنني في حالة سكر دون لمس النبيذ).

هنا في كابري ، مشى عبر ازقتها الطبيب السويدي “أكسل مونتيه” وشيّد الفيلا الشهيرة “سان ميشيل” ، و هنا كتب غراهام غرين أجوّد اعماله ، اما الروائي الانجليزي “نورمان دوغلاس” فقد صاغ روايته الشهيرة “رياح الجنوب” متكأ على طاولة احدى مقاهي الجزيرة التي لا تنام. هنا ايضاً اجتمع “آيزنهاور” الرئيس الامريكي مع “ونتستن تشرشل” رئيس وزراء بريطانيا وناقشا سويةً استراتيجيات الحرب العالمية الثانية ليولد القتل وسفك الدماء من رحم الطبيعة الساحرة والجبال الخضراء في مفارقة حزينة.

اخذتني الازقة الضيقة لجادة “تراغارا” ، دارة “آرتورو” على وجه الدقة مسكن “بابلو نيرودا” الشاعر والسياسي التشيلي والحائز على جائزة نوبل في الآداب مطلع السبعينات من القرن الماضي. اشترك في ذات المصير مع “الخديوي اسماعيل” و”الملك فاروق” واختار ان تكون الجزيرة هي منفاه حتى حين. حل ضيفاً لدى عالم النباتات الايطالي “إدوين سيريو” وسكن فيلا صغيرة أعلى التلة ، وتطل على البحر.

التقى نيرودا بحب حياته “ماتيلدا” في الجزيرة ، واختار ان يكون فستان زفافها فريداً من نوعه ، قماش ايطالي فاخر مخطط بالاخضر والاسود ، مضاءً بخيوط ذهبية نسجته سيدات الجزيرة يدوياً على الأنوال العتيقة.

كان نيرودا يكتب اشعاره صباحاً بجوار البحر وتطبعها ماتيلدا ليلاً على الآلة الكاتبة ، فنتج عن هذا الثنائي العاشق مطبوعات عدة ابرزها مجموعة شعرية بعنوان “كابري : ملكة الصخرة”. اما السينما العالمية فقد خلدت قصتهما في فيلم “البوسطجي او il Postino” لتبقى ذكراهما لكل من قرأ ونظر.

بدأت الشمس تميل للمغيب وقاربت جولة اليوم الأخير على نهايتها. ثمّة قطع مني أضعتها هنا في كابري ، إغواء الفن وعراقة التاريخ كفيلان بالطبطبة على روحك وقلبك في نهاية هذا اليوم الطويل.

في اثناء عودتي للفندق، عرجت للساحة الرئيسية مجدداً ومررت بأطراف فندق “القطة البيضاء او Gatto Bianco” ، ههنا سكنت “جاكلين كينيدي” وصديقتها الممثلة الايطالية ذات العينان الآسرتان “صوفيا لورين”. الفندق اصبح حالياً شبه مزار سياحي تتصدر زواياه تماثيل عديدة من الغرانيت الفاخر لقطة مالك الفندق في تخليد لذكراها بعد رحيلها. واحدة من سلالة تلك القطة، رأيتها اليوم تمشي بخيلاء في ارجاء المكان و تتموضع امام عدسات سياح من الصين اصطفوا لمداعبتها وتصويرها.

قررت أن احمل معي تذكاراً بسيطاً من كابري، فقمت بزيارة “بوتيك Corallium” لصاحبيه “إنزو” وزوجته الجميلة “ثريا” ، المحل صغير جداً مخصص لصناعة الحلى يدوياً وبيعها ، توارثا المكان والحرفة عبر أجيال عدة سبقتهما ، إنزو اثناء عمله ، يراقص القطع بين يديه وينفث فيها تعاويذ سحر ويكسوها بالجمال. حين سألتهما النصح بإختيار لون واحد فقط من الحلي يمثل الجزيرة ، بادراني فوراً وبصوت واحد :“الأزرق”.

بالقرب من الفندق حيث اسكن، يتموضع “مخبز Buonocore” في الزاوية الضيقة من الشارع الصغير ، يرسل شذى المخبوزات المحلية الطازجة لآرجاء المكان ، اصناف عدة من الحلويات اللذيذة و كعكة الكابريلو الشهيرة الخاصة بجزيرة كابري والمصنوعة من اللوز والليمون والعسل مغطاة بالكامل بذرور السكر الناعم في مزيجاً يشبه المعمول والغريبة لدى الدول العربية.

واصلت طوافي الأخير بين دروب كابري في هدأة ليلها الساحر ، وسكون اصوات الشوارع التي لم تعد مكتضة كما كانت في نهاراتها. رحل سياح اليوم الواحد وبدأت المتاجر تغلق أبوابها ببطء. حمل اللّيلُ معه هدوءً امتصه رأسي المملوء بمشاهد متنوعة لجزيرة تنهض من تحت البحر.

التمعت البيوت أعلى التلة المقابلة كنجمات وقناديل صغيرة ، تومض في وسط عتمة طاغية ، فتبعث الدفء والسكينة وحرارة إجتماع الأهل والأحبة بعد يوم حافل وصاخب. رائحة الليل لا تنتهي ، والزهر الغافي على اسوار البيوت يجتمع في ذاكرتي الحالية مع رائحة التاريخ العابق في الأزقة ، في كل شارع ودهليز تضيء حكاية لشخوص تليق حياتهم بأن تُقرأ في الكتب.

صعدت لغرفتي وتوجهت للشرفة استنشق هواء البحر في وداع يغلفه امل العودة من جديد لذات الغرفة رقم ٣٢، غَفَتْ العيون من حولي ليلتمع البدر في سماء ليلتي الأخيرة في جزيرة كابري. القمر ليلتها كان أقرب من القمر الذي عرفته طوال حياتي لذا لم استطع النوم وبقيت اتأمله طويلاً.

الفجر في الجزيرة من فرط بهاءه يكاد أن يبعث في الارجاء أغنية عذبة ليستيقظ إثرها النيام ويبدأ النهار الجديد. شعرت حين مغادرتي أن كل مافي الجزيرة يودعني ويطلب مني تكرار الزيارة يوماً قريب. ارقب وجوه الصيادين الكادحين ينطلقون للمرسى يجربون حظوظهم مع البحر، باعة محلات الورد يرشون الطرقات المحيطة بهم بالماء لإيقاض الشارع ، المخبز الصغير يغري الجياع بالاطايب الطازجة ، ابتسامات كبار السن وغمزات صغارها ، جميع ما في كابري يلاحقني اما انا فقد حملت بعضاً منها في حقائبي وجيوبي … وقلبي !

************************

وجوه من كابري …

زوايا أخرى من كابري ..

لوحة طريفة لمحل بيع ألبسة البحر ، استبدلوا كلمة “مغلق” بـِ “ذَهَبَ للتشمس”

منازل تزاحم الحجر والشجر
مشغولات كابري من الخزف والرسم عليها يدوياً وبألوان طبيعية من البيئة المحيطة بهم