“Bright Reflection”
“لكي تفرح بمشاهدة قوس قزح ، عليك أن تحتمل المطر” تلك كانت عبارة مكتوبة في لوحة مؤطرة على الحائط المؤدي للباب الخارجي من البنسيون الذي بت فيه ليلة البارحة. حملتها معي كرسالة خفية تبعث في قلبي الحماسة كلما واجهت أمراً عصيباً أثناء المشي.
مررت بعدة قرى صغيرة اليوم جميعها معدة ومجهزة لاستقبال الرحالة، فالطريق إلى سانتياغو بات أقرب يوماً بعد يوم.
مسارات الطريق تنوعت صعوداً وهبوطاً عبر تلال صغيرة كان المشي من خلالها تجربة مذهلة. اعشاب السرخس وأشجار اللبلاب والكينا والزان شكلت جميعها غابة متفردة من حيث تنوعها وجمالها.
العبور فوق حجارة متراصة تخترق الجداول الصغيرة والأنهار وفوق جسور حجرية عتيقة كل ذلك يمنحني شعور خاصاً كما لو أنني بطلة لأحد أفلام العصور الوسطى أو شخصية كرتونية في أحد بلاد العجائب.
التلال الخضراء والأشجار الكثيفة تحيط بي من كل جانب وتستمر أمامي على مد البصر. لا يقطع فترات تأملي تلك بين الحين والآخر إلا مرور رحالة من الشباب الصاخب يملئون الدرب بالضحكات العالية والحكايات الطويلة والغناء.
مررت بمنازل ريفية يعمل أصحابها في حدائقهم ومزارعهم فالبعض يحرث الأرض والبعض الآخر يقوم بقطف المحاصيل. اكتفاء ذاتي من الجمال ومن كل شيء. أزهار الكوبية والبنفسج هنا لها ألوان واضحة جداً ومشرقة لم أرى في حياتي أزهاراً بمثل تلك النضارة والبهاء من قبل.
في قرية San Xulian لفتني تمثال اسمنتي للقديس جيمس “يعقوب الحواري” يراقص إحدى الراهبات لم أستوعب الفكرة من هذا التمثال أو أن كانت هناك قصة من وراءه ولكن فيما يبدو لي كان نقطة هامة للعديد من الرحالة الذين تموضعوا أمامه بمرح وانبساط يلتقطون عدة صور لهم هناك.
التقيت عند التمثال بسيدة من هولندا تدعى “ايديث” طلبت مني أن ألتقط لها صورة وعرفت منها أنها قدمت إلى هنا مشياً من بلدها عبر عدة دول اوربية. نعم .. بالضبط مشت وحدها أكثر من 1300 كيلو متر. حينها شعرت بتقزم تجربتي أمامها .. جداً ..
تداخل أغصان أشجار الكافور منحني مسارات ظليلة أثناء المشي اليوم رغم أن الجو كان معظم الوقت غائماً ومنذراً بسقوط المطر. رائحة الشجر والأعشاب من تحت أقدامي تنطلق مباشرة لتغمر أنفي في تجربة حسية لن أنساها ما حييت.
قرية Leboreiro دخلتها وكأني وضعت اقدامي داخل كتاب قديم للحكايات. القرية هنا منذ العصور الوسطى ولها جسر حجري قديم فوق النهر أسمه ماغدالينا تم تدبيس حجارته بمشابك حديدية أعطته شكلاً عتيقاً وغارقاً في القدم والعراقة.
هذه القرية توجد بها صوامع أيضاً لحفظ الفاكهة والخضار مثل القرع والخيار وغيرها من المحاصيل الزراعية الأخرى وهي مثل الـ Horreos التي تحدثت عنها بالأمس. في هذه المنطقة يطلقون عليها أسم Cabazo وهي حظائر تشبه السلة الخشبية مصنوعة من أغصان شجر الصفصاف وترتفع عن سطح الأرض بواسطة أعمدة من حجر أو أخشاب.
في Leboreiro ايضاً كنيسة من القرن الخامس عشر للميلاد وأمامها نافورة ماء عذب و اسطورة تقول أن قاع النافورة في الليل يضاء بنور ساطع جداً وحينما اقترب منه أهل القرية وجدوا ان القاع يحوي حجر مرسوم عليه صورة لمريم العذراء تتوهج كل ليلة.
قام السكان بحمل هذا الحجر لداخل الكنيسة المجاورة وفي كل مساء يكتشفون أن الحجر قد أنتقل من جديد لقاع النافورة وأنار المكان بالضياء. قرر بعدها أحد فناني القرية رسم صورة مشابهه لذلك الحجر العجيب وتم تعليقها في وسط الكنيسة. ولا تزال تلك النافورة حتى اليوم تضاء ليلاً بنور بديع و أسطورة لا تموت.
أشتهر سكان اقليم غاليثيا بأنهم في البداية يرتابون من الغرباء ولكن لهم القدرة على منحك العالم بأسره بمجرد التقرب منهم وسماع حكاياتهم واحترام معتقداتهم وأساطيرهم.
الفراشات الملونة تكثر في هذه المنطقة لدرجة أنها قد تكون مؤذية وترتطم أجنحتها الرقيقة بالعين مباشرة في بعض الأحيان. لم أكن لأصدق يوماً أن لتلك الجميلة الناعمة مثل هذه القدرة على الأذى.
وصلت قبل الظهر إلى ميليدي Melide وهي مدينة ضخمة مقارنة بغيرها من القرى والبلدات التي مررت بها هذا اليوم. عدد سكانها يصل لحوالي 8000 نسمة. تشتهر بطبق الأخطبوط الذي يطهى على البخار والمرشوش بذرور البابريكا الحمراء اللاذعة ورشات من زيت الزيتون البكر.
عند تقديمه للزبائن عادةً ما يسكب عليه نقاط من النبيذ الأبيض أو ما يطلقون عليه بالفينو بلانكو ولأني أردت أن أجرب هذا الطبق بشدة فقد طلبت أن يتم استبدال الفينو بلانكو بعصرات من الليمون والخل لتؤدي نفس الغرض.
هذا الطبق شهير جداً في هذا الجزء من الشمال الأسباني وأحيانا يأخذهم الافتخار بإقليمهم فيطلقون عليه Pulpo a la Gallega أي الإخطبوط على الطريقة الغاليثية. المطعم أسمه Pulperia Ezequiel ويعد الأشهر والأفضل في إعداد هذه الوجبة المميزة. الوجبة يتم تقديمها على لوح خشبي دائري الشكل مع قطع من الخبز وحبات زيتون اخضر.
النادل كان شاباً لطيفاً من المغرب ومن مدينة أصيلة الساحلية تحديداً وأسمه هشام. حينما علم أني عربية نصحني بتجريب شطيرة الفلافل في المطعم التركي الكائن على شارع Rúa Progreso القريب. لم أصدق وبعد كل هذه الكيلومترات الطويلة من المشي عبر القرى الأسبانية أن أسمع هذا الاسم .. “فلافل” .. وجبتي المفضلة.
كنت قد شعرت بالامتلاء بعد وجبتي الدسمة ولكن قررت أن أذهب لمطعم Café Guzel Doner Kebab الذي يبعد خطوات بسيطة فقط من نزل الحجاج الشهير Albergue Pereiro.
أخذت معي شطيرتان لكي اتناولهما في طريقي للمدينة التالية أو احتفظ بها للعشاء. في كل الأحوال لن افوت على نفسي “ساندوتش فلافل بالطحينة والشطة” في مجاهل أسبانيا.
انطلقت لمحطة المبيت لهذه الليلة في مدينة ارزورا Arzura وصادفت رجلاً كفيفاً من كندا بصحبه صديقه ومعهم كلب. ألهمني هذا الرجل اليوم ومنحني معاني جديدة للمثابرة والصبر وعدم اليأس. صديقه يصف له الأماكن وكأنه عينه وكلبه يبعده عن الحفر في الطريق أو الصخور الكبيرة بكل انضباط. مشيت بجوارهم معظم الطريق واستمعت لوصف صديقة الأمين وطابقت ما كان يقوله بما أراه أمامي ووجدتني أغمض عيني لا شعورياً وأنا مستمرة في المشي. الحمد لله على كل النعم وكل الحواس وكل ما أملك اليوم وكل يوم.
حجزت بالأمس في فندق Pazo Santa Maria في مدينة ارزورا وهو واحة بديعة على أطراف المدينة. البناء الحجري يعود للقرن الثامن عشر وتم تطويره ليكون فندقاً حميماً ودافئاً وعصرياً ملحق به مسبح واسع ومهجور لبرودة الطقس في هذا الوقت من السنة. توجد به صالة هادئة جداً تستخدم كمكتبة “أدون منها الآن” وتتصدر المدفئة المشتعلة بالحطب صدر الحائط والمطر ينهمر غزيراً في الخارج تماماً مثل الأفلام الكلاسيكية الشهيرة.
آآه .. نسيت !! .. سأتناول الفلافل بمجرد رفع هذه التدوينة.
.
مسار رحلة اليوم : Palas de Rei – Arzura (32km)
31st night stay: Pazo Santa Maria .. O Pazo s/n, 15810 Santa Maria de Arzua, Spain
Photo courtesy: Google images