“tourism”
انهمر المطر بغزارة عند محاذاتي للتل المرتفع وحينما نظرت للأسفل كان الوادي سحيقاً وأي خطوة غير محسوبة قد تكون مميتة. وحدث ما كنت اخشاه وانزلقت قدمي وهويت من ذلك الارتفاع وسقطت حقيبتي بجميع ما فيها في النهر الذي جرفها بسرعة بعيداً عني ثم صحوت من نومي اتصبب عرقاً والهث واحمد ربي كثيراً وطويلاً أن ما سبق كان كابوساً واستيقظت منه.
كانت الساعة تشير للرابعة من فجر اليوم. نظرت من شرفتي فوجدت السماء لا تزال داكنة والضباب يلف المكان يحجب عني رؤية أي شيء خارج حدود الفندق. الرعب من الكابوس كان مسيطراً على ولم اصدق حقاً أنني بخير وان حقيبتي هنا بجواري حتى قمت وفتحتها ووجدت جواز سفري الأخضر امامي سليماً تماماً وبطاقاتي البنكية فهما أثمن ما أملك في حقيبتي بأكملها.
ما ان لاح ضوء النهار حتى كنت قد خرجت من حدود البلدة السابقة وأصبحت في قلب الريف من جديد. مررت بعدة قرى زراعية صغيرة وبيوت من حجر مرصوف وعائلات قليلة الأفراد تعمل في الحقول أو تسير وراء قطيع الأبقار التي تترك مخلفاتها وراءها في كل خطوة وابقى انا في حالة قفز مستمرة حتى اتخطى تلك البقع الملوثة من خلفها. كلاب المزارع تنتشر بشكل كبير وكنت على حذر طوال الوقت فلا اميز إن كانت ضالة وخطرة أم تابعة للمزارع وأليفة.
تضاريس الطريق تنوعت ما بين إسفلتية أو مسارات ترابية تحيطها أعشاب السرخس وغابات البلوط. الشلالات الطبيعية تنهمر بجانب الطريق وتصب في تجمعات ماء صغيرة.
شاهدت رحالة يقفون طويلاً حتى تعبر الحلزونات و الخنافس الصغيرة الطريق. وسمعت أحدهم يقول أن لتلك الكائنات الأفضلية بالمرور كونها سبقتهم للمكان. اعتقدت أنهم يتندرون أو يتسلون اثناء استراحتهم ولكن تكرر هذا المنظر عدة مرات من رحالة آخرين. للأمانة لم أقف انتظر مرورها بل كنت اتطلع للوصول للبلدة التالية قبل أن يداهمني الوقت.
لو كنت أمتلك مالاً لأعطيته للناس حتى تمشي مسافات طويلة لمدة شهر أو شهرين وأتكفل حينها بتغطية مصاريفهم جميعها فحجم الفائدة التي جنيتها حتى الآن تجعلني أتمنى مشاركة هذا الخير مع الآخرين.
المشي وحدي منحني آلية جديدة للتفكير والتأمل. ذكريات مدفونة تظهر للسطح ، لحظات مضحكة ، مواقف حرجة ، تماماً وكأني أقف أمام خزانة ملابسي وأرتبها من جديد واعزل القديم وقد أتبرع بالبعض منها وارمي البعض الآخر في سلال المهملات. أو كأني قد فتحت نوافذ الروح ونفضتها من الغبار وأعدت ترتيب الحجرات والغرف من جديد. نادراً ما كنت أمنح نفسي مثل لحظات الجرد تلك وإعادة الحسابات في كل شيء فالحياة تعصف بي دوماً واتوه في مساراتها وينتهي اليوم تلو الآخر.
أيام معدودة وأصل لسانتياغو وينتهي المشوار وأعود لواقع الحياة اليومية بعيداً عن الكامينو الذي منح أيامي إيقاع خاص وجعلني اعيش الحياة بكل بساطتها وتعبها وبهجتها وإجهادها وجمالها. سأشتاق لحياة الريف وجمال الطبيعة والصداقة السريعة الحقيقية والصادقة ولكن بالتأكيد لن أشتاق لغسل ملابسي اليدوي كل يوم وانتظاري لها أن تجف.
وصلت لمدينة “ساريه” Sarria وهي نقطة مهمة جداً على خط الكامينو. الكثير من السياح يعتبرها نقطة البدء للمشوار لأنها تبعد فقط 100 كيلو متر عن خط النهاية وهي الحد الأدنى المسموح بمشيه للحصول على الـ ” compostelana” أو شهادة إتمام المشي من مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا.
أفواجاً كبيرة من السياح يأتون لهذه المدينة في حافلات حديثة و ضخمة أو عبر محطات القطار الرئيسية. السكان المحليون يطلقون على الرحالة الجدد لقب “توريغرينو” أي الرحالة السائح أو الحاج السائح. لمحت كثير منهم يمتلئون بالحماسة الشديدة ملابسهم نظيفة جداً أحذيتهم جديدة حقائب ظهرهم لم تمسها الأتربة بعد. يمشون في جماعات كبيرة ويملئون الساحات بالرقص والغناء. كنت مثلهم تماماً قبل عدة اسابيع من اليوم وأستطيع أن اتفهم شعورهم في هذه اللحظة. أرجو فقط أن لا تصاب أقدامهم الغضة بتقرحات المشي المؤلمة وتستمر لديهم حالة البهجة تلك.
مدينة ساريه تشتهر بكثرة كنائسها التي كانت سابقاً مساجد وأعيد تشكيل المآذن فيها لتصبح أبراج عالية تحوي أجراس ضخمة. المرور بجوار كنيسة سانتا ماريا عبارة عن دخول مجاني لمتحف مفتوح. الرسومات تزين الجدران العتيقة المؤدية إليها وتتغذي العين بصرياً بالفن والجمال.
قررت أن اتجاوز المدينة بكل صخبها وأسكن ليلتي في البلدة التالية بعيداً عن الزحام. بمجرد أن أصبحت خارج حدودها وعدت مجدداً للريف كنت أمشي بمحاذاة مسار ضيق للقطارات. وابتهجت مثل الاطفال حينما مر قطار سريع وأطلق صافرة تحذيرية طويلة. وجدت نفسي داخل كادر سينمائي وقصة من تأليفي وبطولتي وحدي.
وصلت بعد ظهر اليوم لبلدة Barbadelo الهادئة. وأخترت طرفها الشرقي للسكن في Casa Barbadelo .. غرفة مشتركة هذه المرة .. لا بأس فسأدلل نفسي بغرفة أجمل ولي وحدي في المدينة التالية.
.
مسار رحلة اليوم : Samo – Barbadelo (20km)
29th night stay: Casa Barbadelo .. Vilei, s/n, 27616 Sarria, Spain
Photo courtesy: Google images