“Coming home for a while”
أربعون دقيقة من المشي كانت كافية تماماً لنقلك من وسط القرية إلى التلال الخضراء. أنت الآن وسط طبيعة فاتنة تستحق التوقف والتأمل والكثير من التسبيح. اللون الأخضر بدرجاته من الداكن جداً في الاشجار وحتى العشبي الزاهي في التلال. تشعر وكأن اللون الاخضر قد أنسكب وانتهى هنا في هذه البقعة. السماء شديدة الزرقة أيضاً والغيوم تشبه القطن. الشمس تحاول الظهور ثم تحتجب. الهواء بارد يدخل للرئة مباشرة ويفتح لديك شعيرات هوائية لم تفتح من قبل.
خمسة كيلو مترات مشياً تفصلني عن مكان المبيت الأول لليوم الأول. الطريق شبه رملي والتربة ذات لون برتقالي باهت. رغم مروري بمفترقات طرق إلا أن ايقونات الطريق المتمثلة في السهم الأصفر والصدفة البحرية كانت في كل مكان وعند كل مفترق طرق.
عند الكيلو متر ألأخير توقفت للاستراحة. قبل رحيلي عن القرية كنت قد ابتعت لنفسي ثمرتي موز طازج وقنينة ماء متوسطة مكافأة المشوار. شعرت لحظتها أنني استحقها تماماً. أنا الآن فوق قمة الجبل الأخضر وبالأسفل هناك تنام بيوت متفرقة وأنا وحدي. الألم بدأ في عضلات مؤخرة ساقي على إثر صعود الجبل شعرت أيضاً بصداع خفيف. المنظر من أمامي لا يشجعني على مواصلة المشي. أريد أن أبقى أكثر وأتأمل أكثر.
لملمت حقيبة الظهر واحكمت غلق قنينة الماء وانطلقت مجدداً.
في منتصف الطريق بين قرية سان جان بييه دو بور وجبل بنتارت يقع كوخ مستطيل الشكل مكون من طابقين. نصفه السفلي من الحجر العتيق والنصف العلوي من خشب البلوط البرتقالي يعلوه القرميد الأحمر على شكل مثلث. قرعت الباب الخشبي ودخلت لبيت حميم قابلت ماري جوزيه حيث تدير هذا النزل للعابرين مقابل خمسة وثلاثون يورو تحصل بها على سرير ووجبة عشاء وإفطار لليوم التالي. لم أكن لأحصل على كل ذلك لو لم أقدم لها الجواز (المطوية الخاصة بالطريق) عرفت منها أن الأفضلية أكثر للقادمين مشياً وأن المكان يفتح فقط من بداية نيسان وحتى نهاية تشرين الأول من كل عام.
النزل يتسع فقط لعشرون شخص جلسنا جميعاً على طاولة مستطيلة ذلك المساء لتناول وجبة العشاء الأولى لنا في هذه الرحلة. خلفنا كانت المدفأة بشكلها التقليدي كما في الأفلام على جانبيها رؤوس غزلان برية محنطة. كنت أراقب إختلاف البشر تماماً كما هي حال المقاعد التي نجلس عليها. كل مقعد له شكل مختلف لا أعلم أن كان احد قد فطن لذلك ام أنا وحدي. حتى اللوحات على الجدران كانت على غير ذات النسق. الإنارة كانت عبارة عن فوانيس تتدلى من السقف الخشبي وتعزز الطابع الريفي للمكان.
العشاء كان طبق من حساء الخضار الساخن – باستا الدجاج المشوي وسلة من الفطائر المحلاة. قناني النبيذ الأحمر كانت توزع علينا جميعاً ببذخ. كنت أبتسم عندما اراهم يتعجبون من رفضي بأدب للقنينة أثناء العشاء وكأني فقدت عقلي فمن له “الحظ” بأن يجد قنينة نبيذ فاخر في وسط الريف الفرنسي الساحر ويرفض لابد أنه شخص مجنون حتماً كما قرأت في عيونهم. كنا جميعاً تلك الليلة نستغرب الإختلافات والفروقات بيننا. لا زلنا مغلفون بقناعاتنا الخاصة وانطباعاتنا المسبقة.
وجرياً على عادة المكان، حضرت صاحبة النزل وبصوت عالٍ رحبت بالحضور وطلبت أن نقدم أنفسنا للآخرين من أين أتينا وما هي خططنا للكامينو. شعرت حينها بإحساس التلميذة العاجزة عن الإجابة وهي تنتظر الدور يأتي إليها لتجاوب. فكيف لي أن أتكلم بحضور كل هؤلاء الغرباء. ولأول مرة. وماذا سأقول عن نفسي اكتشفت أنني لم أكن منتبهة أن إحدى السيدات قد بدأت بالحديث فعلاً وكانت في وسط الطاولة.
أسمها “ايميرين” من ميامي فلوريدا بالولايات المتحدة قررت أن تمشي لوحدها حتى تتخلص من فكرة الخوف من السفر بشكل عام.
وقفت “بيرل” من أقصى الطاولة يسار وقدمت نفسها أنها قادمة من ولاية جورجيا وقررت المشي لأسباب روحية بحتة.
اكتشفت أن الحديث ليس بالدور لذلك قررت أن انغمس أكثر في حكايات الحضور وأن أستمتع بوقتي.
التفتنا جميعاً لوسط الطاولة مجدداً حينما وقف “جيري” من امريكا ايضاً ورفع كأس النبيذ وقال “في نخب رحلة طيبة مبهرة في النور ومشعة في الظلام” وبادله الحضور برفع الكؤوس قال أنه يمشي فقط من أجل صلة أفضل مع الخالق.
تحدث أحدهم من طرف الطاولة البعيد لم أفهم منه إلا انه من المانيا وان عمره ثلاثون عاماً.
“كارلوس” من كولمبيا قال أنه يمشي الطريق برفقة زوجته احتفالا بمرور خمسة وعشرون عاماً على زواجهم.
اما “ليزلي” من سياتل الامريكية فقد ذكرت أنها قررت المشي بحثاً عن التناغم الروحي والجسدي والديني.
“غلوريا” كانت خارجة للتو من تجربة طلاق مريرة لذلك قررت أن تمشي الطريق حتى تستعيد ثقتها بالبشر مجدداً. بعدها قابلتها موجة تصفيق وتهليل من الحضور تشجيعاً لها.
“ابريل” امريكية أيضاً ممتلئة الجسد وممتلئة بالمرح قررت فجأة أن تحصل على إجازة مفتوحة من عملها وأن تمشي الطريق علها تفقد الوزن الزائد وختمت حديثها قائلة “سنرى” وكأنها تعلم أن عزيمتها ضعيفة في الغالب ولن تواصل المشوار.
“جين” من انجلترا مشت نصف المسافة العام السابق ولم تكمل. لذلك قررت أن تتحدى ذاتها وأن تكمل المشوار هذه المرة.
وقف شاب عاري الكتفين ويمتلئ جسده بالوشوم الغريبة وبدا لي أنه شاذ من حركة جسده وميوعته في الحديث قال مداعباً الحضور “اسمي ليس بريدجيت” وضحك لوحده على دعابته التى لم يفطن لها الجميع. بعدها ذكر أن أسمه “كريستوفر” وأنه من كايمبردج البريطانية وقال : “سأكون صريحاً معكم، أنا اعمل ليلاً وقررت أن أمشي الكامينو حتى أرى السماء نهاراً واستمتع بمشهد الشمس والغيوم وأستمع أكثر للعصافير” حديثه البسيط دخل لأعماقي وصدقته.
لمحت بين الحضور مارشا وزوجها غريغ الذين التقيتهم في القرية السابقة، رؤيتهم كان فيها نوع من الحميمية وكأني التقيت بأصدقاء قدامى بعد زمن طويل.
“فرناردو” من أسبانيا نطق أسمه بلكنة وكأنه يقول “خرناندو” كان يتحدث الأنجليزية بصعوبة بالغة. ينطق كلمات ونحن نربطها ببعض حسب فهمنا. الذي وصلنا منه اعتقاده أنه الأسباني الوحيد هو وزوجته في المكان وهو في شهر العسل حيث تزوج السبت الماضي وأنه قرر أن يزور أسبانيا بأكملها والمشي في الكامينو بداية لرحلتهم تلك. ختم حديثة قائلاً “إنها جميلة” لم أعلم أن كان يقصد أسبانيا ام زوجته. ضحك الجميع له وصفقوا تقديراً لمحاولته الحثيثة أن يتقرب من الناس ويتواصل معهم حتى لو خانته اللغة.
“ديان” وزجها قادمان من دبلن/ايرلندا تقريباً في السبعين من عمرهما حكايتهما كانت الأكثر طرافة وتحدي بالنسبة لي. فلهما ثلاثة من الأبناء المغامرين. يسافرون للبلاد الغريبة ويمارسون الرياضات الخطرة وكل مرة يعودون لهما بخير. قررت هي وزوجها أن يتحديان أبنائهما بالانطلاق في هذا الكامينو عبر فرنسا وأسبانيا مشياً على الأقدام.
تحدثت مارشا أيضاً وقالت أنها تحتفل بمرور ربع قرن على زواجها من غريغ وأنها تمشي الكامينو لإعادة بث الحياة بعلاقتهما وحتى يتعرفان على ثقافات مختلفة ويلتقيان بأناس جدد كل يوم.
اغلب الحضور تحدث إلا القليل وانا كنت منهم. تمنيت لو أنني تحدثت ولكن ماذا كنت سأقول!
Second night stay: Refuge Orisson .. www.refuge-orisson.com
Photo courtesy: www.bicigrino.com/francia/orisson