أعجوبة مصرية .. Day 16


“Miracles”


 

سأتذكر دوماً لطف خيمينا واعتزاز والدها العجوز بنفسه وشدة كرمه. وسأكون فخورة بنفسي أن تركت لهم بالمقابل ذكرى طيبة عني بجانب طبق الباستا بصلصة الطماطم والريحان الذي أعددته لهم بحب الليلة الماضية.

اليوم بدأت فعلياً عبور ما يسمى بـ “الميسيتا” meseta وهي البراري والسهول الشاسعة التي يشتهر بها هذا الجزء من إسبانيا. أرض منبسطة تماماً بخلاف صعود بعض التلال الصغيرة. المشوار من أمامك طويل جداً وتشعر أنه بلا نهاية.

رغم يقيني بأنني لست وحدي على هذا الدرب وأن هناك عدد من الرحالة أمامي وعدد آخر خلفي إلا أنه في بعض الأوقات يخال لي أنني وحيدة في المكان. في منتصف العدم تماماً. الذين تقدموني بعيد جداً عني لدرجة اختفاءهم عن مجال رؤيتي. أما الذين خلفي فأنا أتقدمهم كثيراً حتى تداروا أيضاً عن ناظري. شعرت برغبة قوية أن أصرخ من أعماقي بأعلى صوت فلن يسمعني أحد. أو أبكي كطفلة تائهة ولن يلومني أحد. ألتفت خلفي ، عدت ونظرت لأمامي ثم أخذت نفساً عميقاً وصرخت طويلاً حتى ظننت أن حبالي الصوتية قد نالها الضرر. هكذا بلا سبب.

تبهرني فكرة يقين الرحالة على هذا الدرب الطويل بأنه في آخر اليوم يوجد مأوى، مأكل، أمان ورفقة طيبة. كل يوم وفي نهاية المشوار هناك مقر للمبيت فلن تنام في العراء أو تبات جائعاً. فكرة اليقين تلك أحتاج لتهذيب روحي عليها لمنع هاجسي الدائم على مستقبلي وماذا يخبئ لي نهار الغد وإحباطاتي وخيباتي الكثيرة من مهنتي التي درستها واخترتها أو حتى في هواياتي التي أحب. الايمان ليس ديانة معينة بل اليقين الخالص بأن الله معك ولن يضيعك في دروب الحياة وإن طالت.

تنبسط السهول أمامي أكثر وتوهمني بأنها لا نهاية لها. الرمال تطقطق جافة تحت قدمي على الطريق رغم المساحات الشاسعة من الأعشاب وحقول القمح عن يميني وعن شمالي. تسليت قليلاً بتجنب قوافل النمل من أن أدهسها وأحطمها وبدت لي ديدان أم أربعة وأربعون ضخمة وداكنة اللون جداً. رؤيتي لأعداد النحل الهائلة و الفراشات الزرقاء الصغيرة التي تطير فوق الزهور البرية بجميع أنواعها وألوانها جعلني اتساءل إن ما كانت القرى هنا لديها مناحل وينتجون العسل.

زاد عدد الوديان الصغيرة التي كانت تحتضن القرى وكان ظهور تلك القرى فجأة أمر مبهج للروح لأنها تكون متوارية خلف أشجار الوادي.

قرى رحلت عن الضوضاء والزحام وصخب الحضارة وسكنت مساحات من الطبيعة البكر أمامي. يهيأ لك أنها مهجورة أو أن سكانها قد أصابهم الخرس.

بدأت ألمح دير سان أنطون أو بالعربية مار انطونيوس وهو راهب قبطي من صعيد مصر و من محافظة بني سويف تحديداً عرف عنه أنه أول من أسس للرهبة والتنسك رغم وجود حركات رهبنة من قبله ولكن هو كان يتميز بقدرته العجائبية على مداواة المرضى. ذهب لشمال لبنان في وادي قاديشا أي الوادي المقدس وأنشأ دير مار أنطونيوس الذي لا يزال من معالم البلدة هناك و يحتوي على أول مطبعة في العالم العربي.

شهد له سكان المكان بقدراته على المداواة والعلاج حتى ذاع صيته عند أحد ملوك الفرنجة في اسبانيا والبرتغال وأمر بإحضاره لعلاج أبنه من الجنون وتلبس الشيطان.

نجح مار انطونيوس أو سان أنطون كما يعرفه الأسبان بعلاج أبن الملك وقرر الأخير أن يبني مستشفى ودير بإسمه. وهذا هو أمامي الآن ببوابته الصخرية ذات القوس وأجزاءه المتهدمة بفعل الزمن وعدم الترميم.

دخلت لبلدة كاستروجايرز Castrojeriz بقلعتها الشهيرة فوق التلة. لاحظت أن هذه البلدة لا ترمم آثارها فالقلعة أيضاً نالها الإهمال وأطرافها مهدمة.

المحلات في وسط البلدة تبارت بعرض ضفائر مجدلة من الثوم مما يعني أنه محصول البلدة الرسمي. جرني الفضول لأسأل إحدى البائعات التي اكدت على توقعاتي وزيادة على ذلك ذكرت أن البلدة تحتفل كل عام في الثامن عشر من تموز بمهرجان أسمه Feria del Ajo يختص بالثوم فقط وجميع المأكولات تحتوي عليه وتقام مسابقات في جدل ضفائر الثوم. عند رفع هذه التدوينة سأكون قد بحثت عن صورة معبرة عن هذا الاحتفال وأرفقها هنا.

بعد بحث مضني وسؤال السكان المحليين وصلت لأعتاب فندق La Posada de Castrojeriz حيث استقبلني المالك الودود وأصر أن يريني الغرفة قبل الدفع. غرفتي رائعة ذات شرفة تحتوي على مقعدين وطاولة من الحديد و تطل على التلال وتلك القلعة التي مررت بها اليوم وستكون أجمل حينما يظهر القمر بدراً هذه الليلة. أحببتها جداً ووجدتها نظيفة أيضاً ومقابل ثلاثة وأربعون يورو فقط، فسأعتبرها ختام عظيم لهذا اليوم الطويل.

 

 

.


 

مسار رحلة اليوم : Hornillos de Camino – Castrojeriz (20km)
17th night stay: La Posada de Castrojeriz .. Landelino Tardajos, 5, 09110 Castrojeriz,
Photo courtesy: Google images.