“Camino = Life”
لم أكن النزيل الخطأ في الليلة الماضية كما اعتقدت بل هي عادة صاحب الفندق مع كل من يخطو عتبات المكان لديه. الحفاوة والاهتمام بأدق التفاصيل أقل ما يمكنني وصفه به. شاهدني ليلة البارحة في البهو الصغير وأقترب مني حينما وجدني استخدم جهاز الكمبيوتر لكتابة التدوينة السابقة. استفسر مني عما أكتب وتعجب من طريقتي في إيجاد أحرف عربية.
تندر على شكل الحروف ووصفها بأنها تبدو له مثل آثار أغصان هشة يحركها ريح قوي على رمال ناعمة. نظر لي مطولاً حينما شرحت له أنني أوثق يومياً لمشواري في الكامينو حينها قال: ” أنا اشجعك على تدوين خبرتك تلك لتقرأها أسرتك وتشاركيها مع أصدقاءك ولكن اخبريهم ببعض الأمور فقط واحتفظي بما تبقى في قلبك، اهتمي أن تتشرب روحك بتفاصيل الطريق. لستِ ملزمة أمام أي كان بتفسير ما تقومين به كل يوم”
بدأت المشي باكراَ هذا الصباح. برودة الجو جعلتني أسرع الخطى وكلما وصلت لقرية أقرر أن أذهب لأبعد منها. مررت بسيدة صهباء ذات شعر ينطلق بحرية في أرجاء الكون من حولها، تضع سماعات ضخمة على رأسها وصخب الموسيقى يصل لمسامعي كانت تحرك جسدها ويديها أثناء المشي بطريقة مرحة و تغني بأكثر الأصوات التي سمعتها نشازاً – من بعدي بالطبع – .خطواتها ازدادت جنوناً مع تغير الايقاع كنت أهلل لها فقط وابتسم مع أمنية عميقة أن أتمكن من تقليدها يوماً ما وأمارس بعضاً من الإنعتاق الروحي بعدم الاكتراث لما قد يعتقده الآخرون عني.
رغم برودة الجو إلا أن لسعات أشعة الشمس كانت تخترق الجلد وتترك حرقة موجعة ولكن تبدل الحال بمجرد أن بدأت المشي بمحاذاة أشجار عالية منحتي بعض الظل المنعش.
تعرفت على أسرة بلجيكية مكونة من زوج وزوجته وثلاثة أطفال مابين السادسة والخامسة عشر من عمرهم معهم حمار يحمل متاعهم. أحببت فكرة أنهم يقضون إجازة أعياد الربيع عبر المشي في الكامينو. كنت أفكر طوال مشيي بجوارهم بكمية المعلومات التي سيحصل عليها هؤلاء الصغار وأنها قد تعادل دراسة سنوات كثيرة بالطرق التقليدية وحجم الانفتاح على حضارة المكان وطبيعة البشر التي ستفيدهم حتماً في بلورة شخصياتهم مستقبلاً.
تعجبت من مرور سيارات أجرة على هذا الطريق وكنت اسأل نفسي ماذا لو قام أحد الرحالة بالغش واستخدم المواصلات للمدينة التالية عوضاً عن أن يمشي المسافة كلها مثلنا! لم أحب طريقتي تلك في التفكير فمن أنا حتى أحكم على الآخرين من خلال اختياراتهم الخاصة بهم أو قناعاتهم! كل يوم يتضح لي أن الكامينو ماهو إلا خط موازٍ للحياة الحقيقية.
الصراع من أجل تهذيب النفس وتطوير الذات يُفرض علي بشكل يومي هنا. أجد نفسي في مواقف كثيرة وكأني انفصلت عني وبدأت بمراقبتي! لم أجد جملة مناسبة تصف الحالة ولكن حتماً سيتبلور أكثر شعوري هذا في الأيام القادمة أو ربما في نهاية الكامينو وقد لا أفهمه على الإطلاق! لا أعلم.
مررت بكومة حجارة صغيرة وكل حجر كان يرتكز على ورقة. أوراق كثرة وملونة وبكل اللغات. فضولي جعلني أقرأ بعضها المكتوب بالإنجليزية. اوراق حملت رسائل لله بمطالب دنيوية مثل الحصول على سيارة جديدة ، سيدة كانت تطلب من الله أن يمنحها طفلة جميلة وأن تطلق عليها أسم لونا، وغيرها من الصلوات والأمنيات.
أكثر ورقة توقفت عندها كانت تحمل أسئلة. ثلاثة أسئلة فقط. يبدو أنها موجهه لكل من يعبر الطريق وليس لشخص بعينه. مكتوب عليها:
أجب يومياً عن الآتي:-
السؤال الأول: مالذي أنت ممتن لأجله؟
السؤال الثاني: مالذي أبهجك اليوم؟
السؤال الثالث: متى شعرت بالرضا؟
للدخول لبلدة Mansilla de las Mulas كان يتحتم علي العبور تحت بوابة حصن كبير من الحجارة الضخمة يبدو أنها كانت نقطة مهمة في تاريخ المعارك القديمة في شمال اسبانيا. يخترق البلدة نهر عريض له جسر حجري على شكل قناطر متعددة. الساحة كانت مسرحاً لسوق يوم الثلاثاء. يأتي له جميع مزارعي البلدة ويعرضون محاصيلهم الطازجة.
أحب مشاهدة الأسواق الشعبية الأسبوعية في البلدان التي أزورها فهي دوماً تمنحني نظره عن كثب للسكان ومن محاصيلهم قد أخمن أطباقهم وعاداتهم في الأكل. أراقب ملامحهم وطرق ترحيبهم بالزوار أو بزملائهم من ألمزارعين، انفتاحهم على الغرباء أو قدرتهم على تحمل المساومة في السعر وتعاملهم مع زبائن نزقين يصعب إرضاءهم.
الفندق الوحيد الموجود في البلدة سيء السمعة وتقام فيه عروض العري الأشهر في إقليم ليون بأكمله. وبسبب تلك العروض يأتي للبلدة كبار الشخصيات والمشاهير رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها!
لذا اخترت هذه الليلة أن استقر في ما يطلق عليه رحاله الكامينو بـ “البيرغي” أو المأوى وكان Alberguería Del Camino الأنسب من بين عدة أماكن مشابهه. إقامتي كانت في غرفة مفردة ولكن بلا وجبات والحمام مشترك وبأربعين يورو تقريباً. لا بأس فيوم غد سأكون في مدينة ليون عاصمة الإقليم بأكمله وهي الأضخم والأكبر والأكثر حداثة في شمال اسبانيا.
الحديقة الخلفية كانت تحتوي على مطعم صغير يقدم أكلات محلية تشتهر بها البلدة مثل سمك القد بالأعشاب وطبق الحلو كان عبارة عن تارت صغير محشو بالكاسترد على الطريقة البرتغالية.
الفناء مظلل بالكامل بأوراق العنب. الديكور العام مليء بالتحف التقليدية التي منحت المكان خصوصية ودفء. الأرضية كانت بلاط بمربعات صغيرة من اللونين الأبيض والأزرق. كانت بإختصار مثل واحة لطيفة للتمتع بوجبة عشاء لذيذة.
بجواري أربع فتيات عرفت من لكنتهن أنهن من امريكا. دخلن في وصلة نميمة ظريفة عن شريكتهن في الغرفة المهووسة بالقراءة والتي أطلقن عليها لقب “السيد إدغار آلن بو” على أسم الكاتب الشهير وكيف أنها تقضي الليل واضعة مصباح فوق رأسها وتقرأ بشغف.
.
مسار رحلة اليوم : El Burgo Ranero – Mansilla de las Mullas (19km)
22nd night stay: Alberguería Del Camino – Calle Concepción, 12 .Mansilla De Las Mulas 24210 – León
Photo courtesy: Google images.